مشهد جديد سيكون أشدّ أثراً من كلّ المشاهد التي ينقلها الإعلام الغربي، مشهد استهداف المستشفى المعمداني في غزة، وصور الأشلاء البشرية المتناثرة...

يكفي متابعة أخبار جرائم الكراهية التي انطلقت شرارتها الأولى من الولايات المتحدة الأميركية نفسها حيث أقدم رجل أميركي سبعيني على قتل طفل فلسطيني في السادسة من عمره بـ 26 طعنة وأصاب والدته بجروح. هي جريمة وقعت بعد الشحن والتحريض الإعلامي الغربي وتخندقه إلى جانب إسرائيل في معركتها على غزّة، وعرضه لمشاهد الهجوم الذي شنّته كتائب القسام على المستوطنات حيث قتلت وأسرت عشرات المستوطنين.

مشهد جديد سيكون أشدّ أثراً من كلّ المشاهد التي ينقلها الإعلام الغربي، مشهد استهداف المستشفى المعمداني في غزة، وصور الأشلاء البشرية المتناثرة في المكان، هي الأشلاء التي كانت قبل ساعات عبارة عن أطفال تجمّعوا في ساحة المستشفى طلباً للأمان، وأمهاتهم وكبار السن في عائلاتهم كانوا على بعد خطوات منهم، وفكرة واحدة كانت تشغلهم وهي أيّ مستقبل ينتظر هؤلاء الأطفال. فقرّرت إسرائيل أن توفّر عليهم القلق والانتظار وأجابتهم بأنّ مستقبلهم الموت. إنّه الموت الموعود به هؤلاء إن لم يكن اليوم فغداً. نحو 3500 طفل وامرأة وعجوز قررت إسرائيل شطبهم من سجل الأحياء منذ بدء الحرب على غزة. لم يكن القصف الإسرائيلي خطأ، وجود هؤلاء الفلسطينيين هناك هو الخطيئة فكيف للسماء أن تترك الملائكة على الأرض.

رغم محاولة تجهيل الفاعل، بل وتحميل المسؤولية للفلسطينيين أنفسهم، وربما للأطفال لأنّهم وجدوا أصلاً على هذه الأرض وليس في غزة أو في هذا المكان بالتحديد. رغم محاولة التقييد على نشر تلك الصورة وغيرها من المكان، رغم الخوارزميات والحجب وتعطيل الحسابات، ها هي عشرات الصور، بل قل المئات والآلاف من الصور التي يتمّ نشرها وتناقلها عبر المنصات المختلفة وعبر تطبيقات المحادثة المفتوحة والمشفّرة. هذه المشاهد وارتداداتها لن تبقى في غزة، ولا يمكن أن تبقى هناك.

أوّل ارتداداتها على الصعيد السياسي كان الإطاحة بالقمة الرباعية في الأردن التي كان يفترض أن تضم إلى الملك عبدالله الثاني الرئيس الأميركي جو بايدن ونظيريه المصري عبدالفتاح السيسي والفلسطيني محمود عباس.

بيانات إدانة وشجب عربية وعالمية ودعوات لوقف فوري لإطلاق النار وصلت إلى حدّ دعوة مجلس الأمن للانعقاد.

لم يعد من الممكن لأحد أن يتجاهل تعمّد إسرائيل القضاء على مستقبل فلسطين بقتل الأطفال في غزة.

على الأرض انطلقت موجات غضب تشبه الطوفان، من بيروت إلى عمان إلى تونس وغيرها من العواصم العربية. حشود شعبية غاضبة استهدفت السفارات الإسرائيلية حيث وجدت وحيث لم توجد تم استبدالها بالسفارات الأميركية والفرنسية. حداد عام وتنكيس أعلام ودعوات ليوم غضب ومسيرات حاشدة.

هتافات قرب الحدود اللبنانية الجنوبية وصل صداها إلى تل أبيب حيث كان الرئيس بايدن يلتقي قاتل الأطفال بنيامين نتنياهو. خصوصاً أن في تل أبيب من ينصت جيداً إلى كلّ ما يحصل عند الحدود مع لبنان. ورغم أنّ صوت الرصاص والقذائف الصاروخية قد يعكر صفو اللقاء الأميركي الإسرائيلي، إلّا أنها مناوشات محدودة وضمن إيقاع موزون حتّى اللحظة، رغم الخشية من أن تؤدّي مجزرة استهداف المستشفى المعمداني والتي أودت بحياة ألف ضحية، إلى ردّ فعل بمستوى الجريمة. وقد يكون بايدن ونتنياهو قد استعرضا بنك الأهداف المحتملة وحجم الخسائر المتوقّعة ومستوى الجهوزية والدعم والتغطية. زيارة تضامن مع القاتل وجولة لمحاولة تبرير جرائمه. ويبقى السؤال من سيستقبل الرئيس الأميركي الذي أعلن انحيازه الكامل إلى إسرائيل في حربها على غزة، وماذا يمكن أن يحمل معه من حلول على الأرض التي تستعد لاستقبال جثامين آلاف الأطفال والنساء الذين قضوا قتلاً أو ينتظرون الموت جوعاً وعطشاً أو نزفاً في المستشفيات التي لم يطلها بعد القصف الوحشي والهمجي؟

وبالعودة إلى جريمة القتل التي وقعت في أميركا واستهدفت طفلاً فلسطينياً. هل يمكن توقّع ما تولّده مشاهد الأشلاء في غزة من غضب ومن ردّات فعل فرديّة شبيهة بالجريمة الأميركية. هل هذا ما دفع إسرائيل إلى الطلب من رعاياها المقيمين في تركيا مثلاً مغادرة البلاد فوراً؟

اليوم لم يعد بمقدور ما حصل في المستوطنات أن يحجب ما حصل ويحصل في غزة. أعداد الضحايا في صفوف المدنيين بين قتيل وجريح أغلبهم من المدنيين، من الأطفال والنساء، حجم التدمير، الحصار الجماعي، قطع الإمدادات من غذاء ومياه وكهرباء وأنترنت، محاولات التهجير القسري وسط تغاضي العالم أو تباطؤه عن نجدة المدنيين المحاصرين، هؤلاء الأبرياء وأغلبهم من الأطفال. لم يعد من الممكن لأحد أن يتجاهل تعمّد إسرائيل القضاء على مستقبل فلسطين بقتل الأطفال في غزة.

ما يحصل في غزة لن يبقى في غزة، وهذا بات من المؤكّد.