توفير الأمن للمستوطنين والمستوطنات وتسليحهم وتدريبهم وإقامة الحواجز الامنية والإجراءات القمعية والبوليسية والاستخباراتية لم تنجح في منع ما حصل.

مع وضع حجر الأساس لبناء تلك "المستوطنة" كان يمكن رؤية انطلاق شرارة المواجهات التي اندلعت بين قطاع غزة الفلسطيني وغلاف غزة الاستيطاني. صحيح أنّ العملية العسكرية "طوفان الأقصى" لم تكن قد انطلقت بعد إلّا ان حصولها كان حتمياً.

استئناف بناء المستوطنات في الأراضي الفلسطينية المحتلة والذي اعتبره المجتمع الدولي والأمم المتحدة عقبة بوجه مشروع حلّ الدولتين، بدا بالأمس وكأّنه يبشّر بحلّ الدولتين أو حتّى قيام دولة واحدة، مع نزوح المستوطنين وتركهم تلك الأرض التي جهدت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة على استخدامها كوسيلة جذب وإغراء لاستقدام اليهود من حول العالم إلى فلسطين.

كثيرة هي الإغراءات التي روّجت لها إسرائيل لاستقطاب اليهود من حول العالم ودفعهم لترك بلدانهم الأصلية والهجرة إلى "الوطن الديني" كما يصوّرون فلسطين. ومن المعروف ان الرابط الديني قد يكون حافزا للبعض إلّا أنّه ليس كافياً. فكانت التسهيلات والدعم المالي وتوفير وسائل السفر وتسهيل المعاملات. وبالتأكيد تمتّعت إسرائيل بدعم غير محدود من العديد من الدول الغربية تحديداً. وهو دعم مالي وعسكري وفتح أسواق ومساعدات تقنية وتعاون عسكري. ولا يمكن أيضاً تجاهل قطار التطبيع مع العالم العربي الذي كان الشغل الشاغل للإدارات الأميركية المتعاقبة.

إلّا أنّ المفتاح الأهم للحفاظ على كلّ ما تحقّق كان العامل الأمني والتفوق العسكري الإسرائيلي. وإلّا فلماذا سيخاطر اليهودي الذي يحمل الجنسية الأميركية مثلا لترك بلاده بحثاً عن فرصة عمل قد تهدّد حياته. وحين تصبح الحياة في الأراضي الفلسطينية بخطر سيغادرها كلّ من يستطيع إلى ذلك سبيلاً. وهذا الأمر بات جلّيا حول العالم مع تراجع الاحساس بالانتماء الوطني لصالح العولمة كما تراجع الانتماء للعقيدة الدينية مع تقدم ملحوظ للمعتقدات الأرضية أو الإنسانية وموجات رفض العنف والدعوات للتسامح.

 تمتّعت إسرائيل بدعم غير محدود من العديد من الدول الغربية تحديداً. وهو دعم مالي وعسكري وفتح أسواق ومساعدات تقنية وتعاون عسكري. 

توفير الأمن للمستوطنين والمستوطنات وتسليحهم وتدريبهم وإقامة الحواجز الامنية والإجراءات القمعية والبوليسية والاستخباراتية لم تنجح في منع ما حصل. وبالتأكيد بدأت خلايا إدارة الأزمات في السفارات الغربية في تل أبيب بالعمل على ترتيب عمليات إجلاء العديد ممن يحملون جنسيات بلادهم. وللتحقق من هذا الأمر لا بد من مراقبة حركة المطارات الإسرائيلية وتحديدا الرحلات المغادرة وعدد من هم على متنها مقارنة بالوافدين.

ومن المعروف أنّ إسرائيل كانت تقدّم مجموعة متنوعة من الحوافز للمستوطنين، وذلك بهدف ضمان استمرار نمو المستوطنات وزيادة أعداد قاطنيها. وتشمل هذه الحوافز:

- قروض عقارية بفائدة منخفضة وتصل قيمة هذه القروض إلى 100% من قيمة العقار، وتكون الفائدة عليها أقلّ من 3%.

- دعم مالي للمشاريع التجارية التي يتمّ إنشاؤها في المستوطنات. ويشمل هذا الدعم إعفاءات ضريبية، ومنحًا مالية، ومساعدة في الحصول على التمويل.

- خدمات اجتماعية وطبية مجانية للمستوطنين في المستوطنات. وتشمل هذه الخدمات التعليم، والرعاية الصحية، والرعاية الاجتماعية.

- الحماية الأمنية وتشمل وجود قوات عسكرية في المستوطنات، ووضع حواجز أمنية حولها.

وتهدف هذه الحوافز إلى زيادة عدد المستوطنين في الأراضي الفلسطينية وذلك بهدف تعزيز الوجود اليهودي في هذه الأراضي وخلق واقع جديد على الأرض، يصعب على الفلسطينيين التفاوض بشأنه في أي مفاوضات سلام مستقبلية.

وتعتبر هذه الحوافز من العوامل الرئيسية التي ساهمت في نموّ المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة. ففي عام 2023، بلغ عدد المستوطنين في الأراضي الفلسطينية أكثر من 700 ألف مستوطن، يعيشون في أكثر من 280 مستوطنة وبؤرة استيطانية.

وبالعودة إلى الدعم الأول الذي قدّمته الوكالة اليهودية لجذب اليهود من حول العالم إلى فلسطين يمكن التوقّف عند مجموعة من التسهيلات أهمّها:

- تقديم الدعم المالي للمهاجرين اليهود من خلال توفير تكاليف السفر والإقامة، ومساعدة المهاجرين في العثور على عمل وسكن.

- توفير خدمات التوجيه والدعم للمهاجرين، وذلك من خلال مساعدتهم على التكيّف مع الحياة في فلسطين، وتعلّم اللغة العبرية، والاندماج في المجتمع الإسرائيلي.

- الضغط على الحكومات حول العالم لرفع القيود المفروضة على الهجرة إلى فلسطين، وذلك من خلال الدعاية والحملات الدبلوماسية.

وتعتبر هذه التسهيلات من العوامل الرئيسية التي ساهمت في زيادة عدد اليهود في الأراضي المحتلّة، ففي عام 1948، بلغ عدد اليهود في فلسطين حوالي 600 ألف يهودي، بينما يبلغ عددهم في العام 2023 حوالي 9 ملايين يهودي.

وفي ما يلي بعض الأمثلة على التسهيلات التي قدمتها الوكالة اليهودية لاستقدام اليهود إلى فلسطين:

- تأسيس صندوق الاستيطان اليهودي في فلسطين عام 1901: كان هذا الصندوق مسؤولاً عن شراء الأراضي وبناء المستوطنات اليهودية في فلسطين.

- تأسيس شركة الهجرة اليهودية عام 1907: كانت هذه الشركة مسؤولة عن تنظيم عملية الهجرة اليهودية إلى فلسطين.

- تأسيس صندوق العمال اليهود في فلسطين عام 1925: كان هذا الصندوق مسؤولاً عن تقديم المساعدة المالية والتدريبية للعمال اليهود في فلسطين.

- تأسيس صندوق التعليم اليهودي في فلسطين عام 1927: كان هذا الصندوق مسؤولاً عن توفير التعليم اليهودي للمهاجرين اليهود في فلسطين.

وساهمت هذه التسهيلات في زيادة عدد اليهود في فلسطين، وتعزيز وجودهم في هذه المنطقة. ولكن بغياب العنصر الأهم، الأمن والأمان والإحساس بوجود مستقبل في هذه الأرض ومع تصاعد وتيرة التهديد الامني لمناطق مختلفة وفي عمق المدن المحتلة، قد نكون امام موجة هجرة معاكسة.