أمين قمورية
لدى إسرائيل شرطة ومخابرات عسكرية و"شين بيت" و"موساد" ومجلس أمن قومي ومصلحة السجون وشرطة مكافحة الشغب وقوات خاصة، واليوم أصبح لديها أيضا "حرساً وطنياً" يتبع لوزير الأمن المتطرف ايتامار بن غفير. وهكذا أضيف رسمياً جهاز أمني جديد يخضع لحزب سياسي، ولا يخضع لأي هيكل مؤسساتي أو تراتبي في الكيان.
واقتطعت حكومة بنيامين نتنياهو من ميزانيات الصحة والتعليم والأمن لتمويل ما وصفه زعيم المعارضة الإسرائيلية يائير لابيد بأنّه جيش من البلطجية وميليشيا خاصة لبن غفير. وكان الأمر أشبه بمقايضة على حساب الدم الفلسطيني بين رئيس الوزراء ووزيره مقابل تأجيل التعديلات القضائية.
وبذلك حقّق نتنياهو "حلم" شريكه في الحكم بن غفير بالانتقال من الدعوة والتحريض على ترهيب الفلسطينيين وتخويفهم، إلى العمل المباشر على ترحيل الفلسطينيين وتهجيرهم مرّة جديدة، لاسيما منهم الذين أصرّوا على البقاء في ديارهم، في ما بات يعرف بأراضي 1948.
بالنسبة إلى بن غفير وزمرته الحاكمة بدءًا من حليفه سموتريتش، وانتهاءً بنتنياهو، الجيش والشرطة والمستوطنين لم يعودوا كافين لقمع الفلسطينيين وكسر مقاوماتهم وتمسّكهم بالأرض، ولم تعد التهديدات بحرق المدن والقرى، بل جاء الوقت لتشكيل ميليشيا "شرعية" ترتكب الموبقات والانتهاكات تحت ستار "القانون"، وتكون أكثر "حرّيّة" وتوحّشاً من الجيش الإسرائيلي، ولا يعيقها ضوابط أو قيود أو قواعد اشتباك. وهذا أيضا من شأنه أن يريح أفراد الجيش والشرطة، ويحرّرهم من المساءلة ويطلق مكنوناتهم ورغباتهم المشحونة بالتنكيل بالفلسطينيين، حتى ولو كان ذلك على يد غيرهم من الإسرائيليين. فالمجتمع الإسرائيلي ومن بينه العسكر يتّجه إلى التطرّف بشكل غير مسبوق، وتصوير الفلسطيني صاحب الأرض غريباً يجب اقتلاعه أصبح سهلاً وضرورياً لتحقيق المشروع الصهيوني وإنهاء الهوية الفلسطينية، فلا شرعية أخلاقية أو سياسية كاملة لإسرائيل من دون القضاء على الفلسطينيين وأحلامهم ومطالبهم. ولا تستطيع الترسانة العسكرية الانتصار من دون إجراءات غاية في الوحشية لإخضاع الفلسطيني وتركيعه. فمع أنّ إسرائيل يبدو أنّها لا تأبه للإعلام الذي يسجّل جرائمها، إلّا أنّها تخشى أيّ تحرك سياسي أو ديبلوماسي تراه خطراً على شرعيتها، أكان ذهاب الفلسطينيين إلى محكمة الجنايات الدولية أم الأمم المتحدة أم حركة مقاطعة إسرائيل، ولذا تلجأ دوماً إلى الاميركي لحمايتها وعرقلة أي قرار قضائي أو أممي يسعى إلى تجريمها. ولكن بن غفير صاحب نظرية أنّ "الأرض لا تتسع لغير اليهود"، لا تشغله قضايا تتولاها وزارة الخارجية، بل يدفع هو وأمثاله إلى حلٍّ عملي على الأرض، متأثّراً بالتاريخ البشع لعصابتي "شتيرن" و"الهاغاناه"، صاحبتي "المجد" في إنتاج النكبة الفلسطينية. وبذلك تكون مليشيا بن غفير امتداد طبيعي للعصابتين، وتأسيس لتاريخ إسرائيلي جديد.
قرار الحكومة الإسرائيلية لم يحدد النطاق الجغرافي الذي سيعمل في حدوده "الحرس الوطني"، لكن لا خلاف على أنّ مدن وبلدات فلسطينيي الداخل ستكون الساحة الوحيدة التي سيستهدفها هذا الجهاز الأمني. فبن غفير يدعي أنّ تشكيل "الحرس الوطني" يعد "استخلاصاً للعبر" من الأحداث التي شهدتها التجمعات السكانية التي يقطنها فلسطينيو 1948 أثناء الحرب على غزة في مايو/أيار 2021، وتمثلت في اندلاع مواجهات كبيرة في المدن المختلطة داخل إسرائيل، والتي يقطنها الفلسطينيون واليهود. بن غفير ينطلق في سياساته وزيراً للأمن القومي من رؤاه الأيديولوجية وتصوراته السياسية لحسم الصراع مع الفلسطينيين. وينصّ البرنامج السياسي المعلن لحركة "المنعة اليهودية" التي يقودها بشكل واضح وصريح، على وجوب العمل على دفع الفلسطينيين المتمسّكين بأرضهم إلى الهجرة، مما يعني أنّه لن يتردد في توجيه "الحرس الوطني" لتنفيذ ممارسات داخل مدن وبلدات وقرى فلسطينيي الداخل، من شأنها أن تقلص من قدرتهم على الصمود والبقاء فيها. والأرجح أن يكون بدو النقب المتمسكين بأرضهم في الصحراء أول أهداف هذه المليشيا. وسيحاول بن غفير أن يجعل من عقابهم عبرة لأمثالهم من الفلسطينيين "المتمرّدين" ضد الاحتلال.
خطة بن غفير تصير أكثر خطورة في ظلّ استمرار الانقسام الفلسطيني بين سلطتين، سلطة في رام الله تبيع الوهم ولا تملك بديلاً عن التفاوض إلا التفاوض مجدداً، وإلا المزيد من التنسيق الأمني والمخابراتي مع المحتل، وتفتقر في الوقت نفسه إلى الشرعية الثورية (المقاومة المدنية والعسكرية) والشرعية التمثيلية ( التأييد الشعبي)، وسلطة في غزة تتحدّث عن خيار المقاومة، ولكنّها تبحث في الوقت نفسه عن فرصة لمهادنة المحتل، وتتورّط في أزمات ومحاور عربية، بدلاً من إيجاد الحلول للأزمات الخانقة التي سبّبها الحصار الإسرائيلي للقطاع. وفي ظل التهافت العربي على التطبيع وسط الخراب في كل الإقليم بفعل الحروب الأهلية والفوضى والحصار.. ومع ذلك يتوجّب على الفلسطينيين وقواهم الحيّة التعاطي بجدّيّة مع هذه المشاريع الخطيرة، والتوافق سريعاً على برنامج وطني شامل يصلح منطلقاً للمواجهة حتى لا نشهد نكبة أخرى في أقل من مئة عام.