على غرار مختلف القطاعات الانتاجية، يشكّل التصدير "حياةً" بالنسبة للعسل، وبقية منتجات مملكة النحل

كالطابة المنتفخة، عامت في السنوات القليلة الماضية على وجه المصطلحات اللبنانية الساخرة عبارتا "وينيه الدولة"، و"شو وقفت عليي!؟". جملتان صغيرتان تحملان دلالاتٍ عميقة على غياب الانتظام عن القضايا الوطنية عموماً، وعن قطاع مربّي النّحل خصوصاً. فهذا القطاع الزراعي والبيئي في آن، متروك للمبادرات الفردية. وهي إن أبدعت خلقاً وتجديداً، تبقى بحاجة إلى حاضنة عامّة، تحمي وتراقب القطاع من جهة. وتُبعد عن النحل من الجهة الثانية "كأس" التفلّت في استخدام المبيدات الحشرية التي يستعملها بعض المزارعين بعشوائية ومن دون أيّ ضوابط أخلاقية.

على غرار مختلف القطاعات الانتاجية، يشكّل التصدير "حياةً" بالنسبة للعسل، وبقية منتجات مملكة النحل. وقد زادت أهمّية ولوج الأسواق الخارجية، ولاسيّما الأوروبية منها، التي يتمتّع سكّانها بقدرة شرائية مرتفعة، بعد انفجار الأزمة الاقتصادية. نعمةٌ، عاد لبنان ليحصل عليها من بوابة تصدير صنف عسل عريق، وذلك بعد انقطاع عام دام لسنوات، نتيجة عدم تمتّع العسل اللبناني بالمواصفات العالمية المطلوبة.

العسل اللبناني على الرفوف في أوروبا

خلل التطابق في المواصفات بين الصناعة اللبنانية والمطالب الأوروبية، كان وراء المنع. وقد كلّف القطاع نحو 20 عاماً من خسارة فرص التصدير إلى الأسواق العالمية. و"بعد المتابعة الحثيثة من وزارة الزراعة مع الجانب الأوروبي منذ العام 2019، أعيد إدراج لبنان ضمن الدول المسموح لها بتصدير العسل إلى دول الاتحاد الأوروبي"، أعلنها المدير العام لوزارة الزراعة لويس لحود قبل فترة وجيزة عبر منصة "أكس". وانطلقت بالفعل أول شحنة من العسل اللبناني من صنف عريق إلى الأسواق الاوروبية، مباشرة بعد نيل الموافقة في حزيران الفائت"، يقول عضو مجلس إدارة نقابة أصحاب الصناعات الغذائية، ومُنتِج "عسل جبل الشيخ"، حسين القضماني. وعاد عسل لبنان لـ "يحلّي" رفوف المتاجر في فرنسا وألمانيا وإيطاليا وغيرها من الدّول.

 أعيد إدراج لبنان ضمن الدول المسموح لها بتصدير العسل إلى دول الاتحاد الأوروبي

التحديات عديدة

الفرصة على أهميتها تشكّل تحدّياً جدّياً أمام مربّي النحل. ذلك أنّ الصعوبة ليست بمحافظة صنف محدّد على مطابقته المواصفات الأوروبية، إنّما بتعميم التجربة لتشمل أوسع عدد من المنتجين المحلّيين. فالوصول إلى منتج نقي خالٍ من العيوب، يتخطّى حرص النحّالين على عدم زغل غذاء النحل بالسكر والمواد المحلّيّة، أو حتّى إضافة مكوّنات غير طبيعية على المنتج النهائي، ويتّصل بوجود دولة قادرة، يتمتّع أفرادها بالمسؤولية المجتمعية. "وهذا مطلب لا يزال بعيد المنال"، بحسب القضماني. فهناك أمور تقنية وغير تقنية لا يستطيع النحّال القيام بها منفرداً، ومن أبرزها:

- تأصيل ملكات النّحل. وهو يتطلّب وجود مراكز متخصّصة تربّي ملكات النّحل وتضمن تزاوجها مع ذكر مؤصّل يحمل مواصفات جيدة. بعيداً عن الطريقة العشوائية والفوضوية التي تحصل الآن.

- مكافحة رشّ المبيدات الممنوعة وغير المطابقة للمواصفات، التي تدخل عن طريق التهريب وتستعمل على نطاق واسع تحت مبرّر "شو وقفت عليي". وإذا نجحت الدّولة في ضبط المعابر الشرعية، فإنّ المعابر غير الشرعية عصيّة عن الضبط. وهذه معضلة يعاني منها النحال من ناحية والبلد من ناحية ثانية. وهي تسيء للنحل والانسان في آن.

حجم القطاع

لا يوجد إحصاءات دقيقة ومحدّثة لحجم قطاع النّحل في لبنان. آخر دراسة تعود إلى العام 2011، تشير إلى أنّ هنّاك 228 ألف خلية (قفير) يملكها 6000 مربّي، يملك الواحد منهم ما بين 5 كحدّ أدنى و1000 خليّة بالحد الأقصى. ويعتبر هذا الرقم "مقبولا بالنسبة للبنان"، برأي القضماني، "وما ينقصنا هو رفد القطاع الخاص المبادر والشغوف بتربية النحل، برؤية واضحة من قبل الدولة. فالقطاع مستمرّ بجهود أصحابه وإرادة الحياة، وهو يشهد تطوّراً كمّيّاً ونوعيّاً. وخلافاً للكثير من المهن، عادة ما يرتبط النحّال بعلاقة عاطفية مع نحله، ويتأثّر بأسلوب عيش النحلة وطريقتها بالحياة. ويصبح من الصعب التخلّي عن هذه المهنة مهما اشتدّت الصعاب.

إلّا أنّه من الجهة الأخرى يعاني القطاع من كلفة الإنتاج المرتفعة، الناتجة أساساً عن غلاء أسعار المواد الأولية، من "قفران" و"براويز" و"أدوات العمل" والأدوية. ويعوزه كبقية القطاعات الزراعية وجود تعاونيات زراعية فاعلة. حيث تساعد هذه التعاونيات على تأمين المواد الأوّلية بأسعار أقلّ من سعر السّوق، نتيجة استفادتها من "وفورات الحجم"، أو ما يعرف بعملية "الشراء بالجملة". كما تؤمّن أدوات الإنتاج كـ "الفرازات"، وأدوات التعبئة وفحص المنتج بأسعار رمزية. وتعمل على تسويق المنتجات في الداخل والخارج. هذا بالإضافة إلى الدور التوعوي لجهة إخضاع المربّين لدورات تدريبية، ووضعهم على تماس مع أحدث التطوّرات والمستجدّات في عالم النّحل.

التمييز بين العسل الطبيعي والمغشوش

خلافاً لكلّ الأقاويل عن عدم امتلاك لبنان التقنيات التي تميّز بين العسل الطبيعي والمغشوش، يوجد في لبنان مختبرات فحص عديدة، وأبرزها، مختبر غرفة تجارة الشمال، ومختبر LARI، ومختبر الجامعة الاميركية، ومختبر RBML، ومختبر معهد البحوث الصناعية. "ومن المستبعد أن تقوم الشركات المرخّصة، وذات الشهرة التجارية، والحائزة على شهادات الجودة من ISO بعمليّة الغش"، من وجهة نظر القضماني. "ويكفي فحص المنتج والتشهير به على موقع المؤسسة ليتمّ القضاء على المنتج كلياً".

على الرّغم من أهمّيّة إنتاج العسل في دورة الغذاء، ودخوله كعنصر أساسي في صناعات دوائية ومستحضرات تجميلية، فإنّ "استمرارية الحياة على وجه الأرض، هي من استمرارية النحل"، حقيقة يعيد القضماني الإشارة إليها. إذ لا عجب افتراض آينشتاين "انقراض البشر بعد أربع سنوات في حال انقرض النحل". فالنّحل مسؤول عن التلقيح الخلقي واستمرارية الحياة النباتية. "ويعتمد ما يقرب من ثلاثة أرباع أنواع المحاصيل في العالم، جزئياً على الأقلّ، على النّحل وغيره من الملقّحات، التي تغذّي الناس ويترعرع بها الكوكب، بما يتّفق مع الخصائص الرئيسية لخطّة التنمية المستدامة لعام 2030"، بحسب الأمم المتحدة. وقد اعتمدت جمعيتها العامّة يوم 20 أيار، ليكون اليوم العالمي للنّحل "من أجل تسليط الضوء على موائل الملقّحات لتحسين ظروف بقائها، حتى يزدهر النّحل والملقّحات الأخرى". بهذه الطريقة ينظر للنحل في الدول المتقدمة، فيما لا يحظى بالاهتمام اللازم على الصّعيد الرّسمي في لبنان.