يعتبر التطوّر التكنولوجي المُحفّز الأوّل للتقدّم العالمي الذي حقّقته المجتمعات البشرية وخاصّة المتقدّمة منها، وبالتّالي أصبحت المنافسة تدور حول الإبداع التكنولوجي وتأمين الموارد الإقتصادية له، وهو ما فرض تدعيم الماكينات العسكرية بأسلحة نوعيّة متطوّرة، والتي أصبحت عنصراً أساسياً في الحسم العسكري بهدف حماية الحلقة اللوجستية لهذا الإبداع

تطوّر العالم اقتصادياً وإنمائياً في العقود الثلاث الأخيرة بشكلٍ مُلفت، إذ ارتفع النّاتج المحلّي الإجمالي العالمي من 25.8 تريليون دولار أميركي إلى أكثر من 105 تريليون مُتوقّعة نهاية هذا العام، أي بنسبة تفوق الـ 400%، وانحفض الفقر المُدقع من 36% في تسعينيات القرن الماضي إلى 10% في العام 2015 و7% متوقّعة في العام 2030.

ويُعتبر التطوّر التكنولوجي المُحفّز الأوّل للتقدّم العالمي الذي حقّقته المجتمعات البشرية وخاصّة المتقدّمة منها، وبالتّالي أصبحت المنافسة تدور حول الإبداع التكنولوجي وتأمين الموارد الإقتصادية له، وهو ما فرض تدعيم الماكينات العسكرية بأسلحة نوعيّة متطوّرة، والتي أصبحت عنصراً أساسياً في الحسم العسكري بهدف حماية الحلقة اللوجستية لهذا الإبداع. هذا التطوّر لعب دوراً محورياً في المنافسة بين الدّول من خلال التسلّح العسكري، والتنافس الاقتصادي، والتطوّر التكنولوجي، وحتّى الإنتاج الفكري.

ثلاثة مناهج أساسية تمّ اعتمادها في التّاريخ لبسط سيطرة الشعوب على بعضها البعض، وهي:

- الأمنية والعسكرية

- الاقتصادية، ومنها الصناعية والتجارية

- الفكريّة الإبداعية، من أدب وشعارات طنّانة وغيرها

وبالنظّر إلى التّاريخ، نرى أنّ التسلسلّ بين هذه المناهج كان في البدء عسكرياً بامتياز ولا يزال لغاية تاريخه، حيث أنّ الدّور الأمني والعسكري يلعب الدّور الأساس من أجل تأمين موارد هذه المناهج وحمايتها.

لسنا هنا للتقييم، لكنّ التاريخ يحكي أنّ المنهجية الأميركية هي الأكثر شمولًا بين المناهج الأساسية، حيث أدخلت الولايات المُتحدة الأميركية الإنتاج الفكري داخل الماكينة الإقتصادية التي تمّ حمايتها بماكينة عسكرية مُتقدّمة ومتطوّرة للغاية. ففي العام 1951 قام المؤرخ الأميركي روبرت شليزنجر بطرح مُشكلة المخاوف من الإنتاج الفكري، والمقصود تمدّد الفكر الشيوعي الآتي من الشرق وبالتحديد من الإتحاد السوفييتي، العدوّ الأوّل للولايات المُتحدة الأميركية. ونصح المستشار الخاص في الإدارة الأميركية آنذاك شليزنجر الإدارة الأميركية باعتماد أسلوب مُتميّز في الإنتاج الفكري في مواجهة تطوّر الثقافات.

وبالفعل وضع الرئيس الأميركي جون كنيدي أطراً جديدة للسلاح الثقافي والفكري في خطابه الشهير في العام 1960 المتعلّق بـ "برنامج الحدود الجديدة"، من خلال إعلانه عن رغبته في تحفيز وتوسيع الموارد الثقافية للولايات المتّحدة لاستكشاف ما يمكن استكشافه، وحتّى التوصّل إلى الفضاء الخارجي.

لم تكن الأفكار واضحة تماماً في ذلك الوقت عن معنى هذه "الحدود الجديدة"، خصوصاً أنّ العالم كان خارجاً لتوّه من الحرب العالمية الثانية وكلّ التركيز آنذاك كان على التسلّح والقوّة العسكرية. وبتاريخ 12 نيسان من العام 1961 تمكّن الاتحاد السوفياتي من إرسال رائد الفضاء "يوري غارغارين" على متن مركبة الفضاء السوفيتية "فوستوك 1" إلى الفضاء الخارجي والدوران حول الأرض لمدة 108 دقائق.

رسّخت هذه الفكرة أكثر فأكثر عند الرئيس الأميركي، وقبل الأميركيون التحدّي الجديد وبدأت الحرب الباردة وغزو الفضاء الخارجي بالتوازي مع تفعيل "السلاح الثقافي والفكري" من قبل الأميركيين. فقد بدأوا بالصناعة "الهوليوودية" وعمدوا الى نشر هذه الصناعة في العالم أجمع، وقد ترسّخت هذه الثقافة الجديدة في الكثير من ثقافات الشعوب، واعتبرت قيمة مضافة للمجال الثقافي الأميركي الذي أخذ بالازدياد بنسبة كبيرة في أميركا وخارجها.

الصّراع الأميركي - السوفياتي ومن ثم الرّوسي، كان صراعاً عسكرياً قبل كلّ شيء، وحتّى لو أنّ الامبراطوريتين لم يدخلا في حرب مباشرة، إلّا أنّهما عمدا إلى التسلّح بشكل كثيف خصوصاً خلال الحرب الباردة، ونشطت الأعمال التجسسية بينهما، ليُعاودا التخلّص من الأسلحة الفتّاكة مع توقيع معاهدات START والتي هدفت إلى الحدّ من التسلّح النووي، مع الحفاظ على توازن عسكري ومناطق نفوذ تتقاسمها الدولتان.

لكن الأحداث الأخيرة خلال الحرب الروسية - الأوكرانية، سمحت للولايات المُتحدة الأميركية بضرب الإمبراطورية الروسية دون الدخول معها في حربٍ مباشرة، وذلك عبر تسليح أوكرانيا التي تخوض حرب إستنزاف عسكرية ضد روسيا، والتي نتج عنها مئات آلاف الضحايا واستنزاف المقوّمات العسكرية والاقتصادية من الجانبين. ويُمكن القول إنّه حتى ولو ربحت روسيا الحرب ضد أوكرانيا، إلّا أنّها ستحتاج حكماً إلى عقود طويلة لاستعادة عافيتها.

أمّا بالنسبة للصراع الأميركي – الصيني، فهو صراع اقتصادي بإمتياز حيث فهمت الصين سرّ نجاح الولايات المُتحدة الأميركية وبنت إستراتيجيتها على تدعيم ماكينتها الإقتصادية منذ بداية هذا القرن، لتجعل اقتصادها في المرتبة الثانية عالمياً من ناحية الحجم. وكانت مُرشّحة لتحتلّ المرتبة الأولى في الأعوام القادمة لولا التطويق الأميركي لها من خلال منعها من الوصول إلى التكنولوجيا الحديثة التي أصبحت عنصراً جوهرياً في السيطرة الاقتصادية في العالم.

الإمبراطوريات العظمى تتفكّك رويدًا رويدًا: "روسيا عسكريًا"، "الصين اقتصادياً" و"الولايات المُتحدة الأميركية اجتماعياً".

ما سبق، يوحي أن الأميركيين ربحوا حربهم العسكرية ضدّ الروس والإقتصادية ضدّ الصنيين. إلّا أنّ قراءة عميقة لما يحدث في الولايات المُتحدة الأميركية يُشير إلى أنّ المجتمع الذي استخدم الفكر والثقافة كسلاح للسيطرة على العالم، أصبح يواجه حرباً ضروساً من الداخل عبر إنتشار أفكار وعادات فكّكت وتستمر في تفكيك البنية الإجتماعية في المجتمع الأميركي.

هذا الأمر سيوصلنا إلى نتيجة واضحة بأنّ الإمبراطوريات العظمى تتفكّك رويدًا رويدًا: "روسيا عسكريًا"، "الصين اقتصادياً" و"الولايات المُتحدة الأميركية اجتماعياً".

وينطلق هذا التحليل ممّا قاله رئيس الوزراء الصيني لي تشيانغ الأسبوع الماضي خلال لقائه مع قادة اليابان وكوريا الجنوبية ودول آسيا في إندونيسيا، أنّ على القوى العظمى معارضة مفهوم المواجهة و"منع حرب باردة جديدة".

كذلك فعل الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب الذي وعد أنّه في حال إعادة انتخابه رئيسًا للولايات المُتحدة الأميركية، فإنه سيحارب المثلية والتحوّل الجنسي كونه مقتنع كما نسبة عالية جداً من الشعب الأميركي على حجم المخاطر التي أصبح يستشعرها قادة هذه الإمبراطوريات، وبأن هذا الانحلال هو الخطوة الأولى في تفكّك المجتمعات.

فهل سنشهد في المدى المنظور تفكّك وانحلال الإمبراطوريات الحديثة أم أنّها ستعمل على إعادة إنتاج نفسها وفق منظور جديد وأسس مختلفة. الأكيد أن الاستمرار في هذا المسار لن يكون في مصلحة هذه الأنظمة والدول وما نشهده اليوم خير دليل.