كان كتاب جيمس ستوكر بعنوان "الولايات المتّحدة هي التي فجّرت الحرب الأهلية اللبنانية" من أبرز الكتب في هذا الإطار 

بعد ظهر الخميس الواقع فيه 10 اب 2023 وَقع اشتباك بين بعض شباب بلدة الكحالة وعناصر من حزب الله أدّى إلى سقوط أحمد قصاص وإلى مقتل فادي بجاني وإلى استنفار في البلدة وتوتّر في عموم لبنان مع تحذيرات من اندلاع حرب أهلية.

وقد سارع بعض قادة الأحزاب المسيحية لإطلاق خطابات نارية تنذر بالرّدّ على حزب الله بطرق جديدة ملمّحين إلى إمكانية مواجهة مسلّحة معه في الدّاخل، وعلى رأس هؤلاء كان سامي الجميل، رئيس حزب الكتائب اللبنانية الذي استحضر تاريخ البلدة في "الصّمود والتصدّي عبر التاريخ" وخصوصاً خلال الحرب الأهلية اللبنانية (1975 – 1990)، ورئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع.

وإذا كان أهل وعائلة أحمد قصاص قد اعتمدوا خطاباً أكّدوا فيه أنّهم لن ينجرّوا إلى ردّ فعل يتمثّل بالأخذ بالثأر ولا بالانجرار إلى حرب أهلية داخلية، فلقد حاولت بعض الأطراف البناء على مقتل فادي بجاني للدّعوة إلى التّصعيد في مواجهة حزب الله لولا رفض أهل وعائلة البجاني استغلال البعض دماء ابنهم لتفجير فتنة أهلية.

تفاصيل الحادثة

وفي هذا الإطار، ووفقاً لمقرًبين من فادي بجاني، فعند الساعة ٣ من بعد ظهر الخميس انقلبت شاحنة على كوع الكحّالة ولم يعرها أحد اهتماماً، لأنّ أهل البلدة معتادون على حوادث انقلاب الشاحنات عند المنعطفات على الطريق التي تمر ببلدتهم. لكنّ فادي بجاني اقترب من الشاحنة برفقة شابين آخرين لإسعاف السائق كما جرت العادة من قبل أهل المحلّة، إلّا أنّ الشاب كان قد خرج بخير، فعاد بجاني إلى منزله الواقع بالقرب من كنيسة الكحّالة.

بعد قليل جاء جيب تابع للجيش اللبناني لتحرّي الوضع، فنزل شباب من سيارتين كانتا ترافقان الشاحنة وأبلغوا الجيش بأنّهم قد طلبوا رافعة لقطر الشاحنة، فعاد أفراد الجيش أدراجهم. وإذ بأهالي البلدة الذين كانوا بالقرب من المكان يفاجؤون بِصِبية نَزلوا خلافاً للعادة وحاولوا الاقتراب من الشّاحنة لتحرّي حمولتها، وقد تساءل الأهالي عمّن حرّض على هذا الأمر. وقد بدأ الصبية برشق الشاحنة والشبّان المولجين بحمايتها بالحجارة. هذا دفع بالشباب المولجين بمرافقة الشاحنة لمحاولة إبعاد الصِبية وبعض الشبّان بإطلاق النّار في الهواء.

وقد سمع فادي بجاني صوت إطلاق الرّصاص فالتفّ من خلف منزله حاملاً رشّاشه، وعندما رأى شباب المرافقة يطلقون الرصاص بالهواء، قام بإطلاق النّار مباشرة عليهم، ما أدّى الى سقوط أحمد قصاص قتيلاً. وقد ردّ شباب المرافقة بإطلاق النّار ما أدّى إلى مقتل فادي بجاني.

في ظلّ صدمة الجميع ممّا حدث، فوجئ أفراد عائلة فادي بجاني بقدوم النائب سامي الجميل وقادة من الكتائب لعقد مؤتمر صحافي في مركز حزب الكتائب بالقرب من الكنيسة حيث قاموا فيه برفع خطاب التوتّر، خصوصاً أنّ فادي بجاني كان قد ترك حزب الكتائب منذ الثمانينات والتحق بإيلي حبيقة، ثم أصبح مقرّبا من التيار العوني.

ردّاً على ذلك وأثناء دفن فادي بجاني، رفضت عائلته إلقاء خطابات سياسية، ما دفع بقادة الكتائب والقوات إلى عدم حضور مراسم الدفن. واعتبرت العائلة أنّ ما حدث كان خطأ من قبل فادي بجاني ومن قبل شباب المرافقة للشاحنة التي انقلبت. في ظلّ حالة التوتّر التي سادت عقب مهاجمة شبان للشاحنة على غير عادة ما يحصل عند حصول حوادث سير في البلدة وتحديداً على الكوع، رافضين استغلال دم فادي ابنهم في إثارة فتنة.

أبعاد ما جرى محليا

وقد يكون من العوامل التي تقف خلف التهدئة هو موقف البطريركية المارونية بألّا يكون الموارنة رأس حربة في حرب داخلية لبنانية كما حدث في العام 1975. وقد تمّ التعبير عن هذا الموقف على لسان راعي أبرشية بيروت المارونية المطران بولس عبد الساتر الذي ترأس قدّاس دفن فادي بجاني والذي اعتبر أنّ "ما حصل في الكحّالة مأساة وطنية لا يجب أن تتكرّر، مشيرًا إلى أنّ "الفتنة تترصّدنا وشعبنا منهك وشبعنا موتًا وحقداً وعلى الجميع التعامل بهدوء ومسؤولية". وطالب جميع السياسيين والأمنيين بزيادة الجهود لتحقيق الأمن لكلّ مواطن والعمل الحثيث على منع الاحتقان الطائفي ونبذ الأحقاد ورفض التعصب المناطقي والحزبي والديني".

وإذا كانت مواقف عائلتي قصاص وبجاني، إضافة إلى موقف المطران عبد الساتر قد ساهمت في تخفيف حدّة الاحتقان ومنع الاستثمار في الدم لتفجير الوضع الداخلي، إلّا أنّ المخاطر لا تزال قائمة لجهة انجرار لبنان إلى حرب أهلية داخلية، خصوصاً في ظلّ محاولة بعض الأطراف البناء على أحداث متنقّلة لرفع خطاب التوتر الداخلي. فقبل حادثة الكحالة جرى توتير الأجواء بعد مقتل المسؤول السابق للقوات في منطقة بنت جبيل الياس الحصروني، وحادثة حريق طال معمل أنسجة على طريق المطار، إضافة إلى أحداث أخرى، منها ما جرى في مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين جنوب مدينة صيدا، بما يشبه الأحداث المتنقّلة التي سبقت اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية والتي تُوجّت بحادثة عين الرمانة في العام 1975 والتي أطلقت شرارة الحرب الأهلية.

ويعود تاريخ دور الكحالة في الصراعات الطائفية في لبنان إلى القرن التاسع عشر. فهذه البلدة المارونية تأسست على أراض كان يملكها آل تلحوق "المقاطعجية (الإقطاع) الذين يحكمون المنطقة الممتدة من بحمدون في أعالي الجبال إلى أطراف سور مدينة بيروت. وقد كان للصراع الطبقي بين "المقاطعجيين" والفلاحين أساسه على ملكية الأرض، والذي اتّخذ طابعاً طائفياً بحكم أن آل تلحوق كانوا من الدروز وأن الفلاحين كانوا من الموارنة وقد كان أساس الصراع الذي اتّخذ شكلاً طائفياً على مدى نحو قرنين من الزمن. لكن الجدير ذكره أيضاً أن البلدة تقع على طريق الشام الرابط بين بيروت ودمشق، ما سيكون له أثر في أن تكون صراعات البلدة ذات أبعاد اقليمية.

الأبعاد الاقليمية للوضع المتوتّر

لقد كان للحرب الأهلية اللبنانية التي اندلعت في العام 1975 أبعاداً اقليمية ظهرت عليها أدلة مادية تمثّلت بكتب مبنية على وثائق تثبت تورّط قوى خارجية في تفجير الحرب الأهلية اللبنانية. وكان كتاب جيمس ستوكر بعنوان "الولايات المتحدة هي التي فجّرت الحرب الأهلية اللبنانية" من أبرز الكتب في هذا الإطار خصوصاً أنه استند إلى وثائق للمخابرات المركزية الأميركية، التي أظهرت كيف أن هذه الاستخبارات دفعت باتجاه الحرب عبر القيام بأعمال تخريبية تسابقت الأطراف اللبنانية لاتهام بعضها البعض بارتكابها، ومن ضمن هذه الأعمال التخريبية حوادث جرت في بلدة الكحّالة وصولاً إلى حادثة عين الرمانة التي أشعلت الحرب الأهلية اللبنانية.

ويبدو اليوم أنّ التّاريخ يعيد نفسه لجهة رغبة القوى الخارجية في تفجير حرب داخلية جديدة في لبنان. وحتى لا ننتظر ٤٠ عاماً أخرى حتى تظهر وثائق تعطي أدلة مادية على ذلك، فإنّه يمكننا الانطلاق من دور بعض القوى الخارجية وأهدافها في تأزيم الوضع السياسي والاقتصادي وتأجيج الشحن الطائفي في لبنان، والهدف التخلّص من سلاح حزب الله، خصوصاً أنّ المقاومة قد أصبحت دعامة لفصائل المقاومة الفلسطينية في الأراضي المحتلّة ضدّ العدوّ الإسرائيلي. وبالتّالي فإنّ التخلّص من المقاومة في لبنان سيؤدي حكماً إلى خنق المقاومة في فلسطين المحتلّة.

لذا، فإذا كان لبنان قد تجاوز قطوعاً مع احتوائه لتداعيات حادثة الكحالة، فإنّه من المتوقّع أن تكون هنالك حوادث أخرى قد تؤدّي واحدة منها إلى إشعال فتيل نزاع داخلي مسلّح، خصوصاً في ظلّ حالة الاستقطاب والشلل السياسي الذي يعيشه لبنان.