الأوليغارشيون الروس هم رجال أعمال من جمهوريات الاتّحاد السّوفياتي السّابق، الذين راكموا الثّروة بسرعة خلال التسعينيات من القرن الماضي، بعدما استفادوا من عمليّات الخصخصة التي أعقبت تفكّك الاتحاد السوفياتي.
في الثالث والعشرين من حزيران 2023 أعلن زعيم مجموعة فاغنر العسكرية الروسية الخاصّة التمرّد، وتوجّه إلى مدينة روستوف متوعّداً بالزّحف على موسكو للقبض على وزير الدفاع سيرغي شويغو وقائد الأركان في الجيش الروسي غينادي غيراسيموف. لكنّ مسارعة الرئيس الرّوسي فلاديمير بوتين إلى التدخّل بحزم ضدّ التمرّد، جعل زعيم المجموعة يفغيني بريغوجين يقبل وساطة الرّئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاتشينكو والقاضية بمغادرة بريغوجين إلى بيلاروسيا في مقابل إسقاط التّهم الجنائية عنه.
ولقد كان لافتاً أنّ التمرّد، وإن لم يلق قبولاً شعبياً من قبل عموم الشعب الرّوسي، إلّا أنّه شكّل فرصة بالنّسبة للمواطنين الرّوس للإعراب عن غضبهم على الأوليغارشيين الرّوس، ومن ضمنهم بعض مسؤولي الدّولة الرّوسيّة مثل وزير الدفاع سيرغي شويغو، خصوصاً أنّ بريغوجين ألمح إلى أنّه سيتوجه بقوّاته أيضاً إلى سانت بيترسبرغ للسيطرة على جزيرة كريستوفسكي حيث يقيم الكثير من هؤلاء الأوليغارشيين في مستوطنة للأغنياء محظور الدخول إليها على عموم الشعب الرّوسيّ. وقد كان مبرّر بريغوجين أنّ هؤلاء الأوليغارشيين يسيطرون على الدّولة الروسية، وهم المسؤولون عن الأداء غير المرضي للجيش الرّوسيّ في أوكرانيا. هذا أدّى الى إعادة طرح موضوع الأوليغارشية الرّوسيّة وعلاقتها بالدولة.
نشوء الطّبقة الأوليغارشية الرّوسيّة
الأوليغارشيون الروس هم رجال أعمال من جمهوريات الاتّحاد السّوفياتي السّابق، الذين راكموا الثّروة بسرعة خلال التسعينيات من القرن الماضي، بعدما استفادوا من عمليّات الخصخصة التي أعقبت تفكّك الاتحاد السوفياتي. فخلال مرحلة حكم آخر زعيم للاتحاد السوفياتي وهو ميخائيل غورباتشوف (1985-1991)، تم فتح المجال أمام نموّ القطاع الخاص، وسمح لبعض الأفراد باستيراد سلع من الغرب قاموا ببيعها مقابل أرباح طائلة. وقد كان معظم هؤلاء الأفراد من أبناء مسؤولين كبار في الدولة السوفياتية وفي الحزب الشيوعي السوفياتي، وكانت غالبيتهم من اليهود الذين استفادوا من علاقات مع الدّوائر المالية الغربية للحصول على قروض، قاموا عبرها بالاستحواذ على مصانع وأصول وقطاعات للدولة السوفياتية تقدّر بمليارات الدولارات في مقابل أسعار بخسة.
وقد استفاد هؤلاء من مرحلة الرئيس الروسي بوريس يلتسين (1991 – 1990) للسيطرة على معظم القطاعات الاقتصادية في البلاد، وباتوا يسيطرون على الدّولة ما جعلهم مكروهين من قبل الشعب الرّوسي الذي كان يلومهم على مرحلة عدم الاستقرار السياسي والانهيار الاقتصادي الذي عصف بروسيا خلال تلك المرحلة.
وكان من أبرز الأوليغارشيين الذين ظهروا على السّاحة في ذلك الوقت بوريس بيريزوفسكي، الذي كان رئيسًا لقسم تصميم النظام في أحد مراكز الأبحاث السوفياتية التابع لأكاديمية العلوم. وخلال عهد غورباتشوف أسّس شركته الخاصة كمشروع مشترك مع المعهد، وقد سيطر بيريزوفسكي على الشركة التي خوّلته مراكمة ثروة هائلة.
أمّا الأوليغارشي الثاني البارز خلال تلك المرحلة فلقد كان ميخائيل خودوركوفسكي، الذي بدأ عمله باستيراد أجهزة الكمبيوتر تحت رعاية مركز الإبداع العلمي والتقني للشباب المعتمد من الكومسومول (اتحاد الشبيبة الشيوعي) في عام 1986. وفي وقت لاحق، خدم في الحكومة الروسية كمستشار لرئيس الوزراء ونائب وزير الوقود والطاقة في العام 1993، وفي العام 1995 استطاع وبفضل علاقاته أن يضع يده على شركة النفط الروسية العملاقة يوكوس وكانت الشركة الثانية على مستوى روسيا والرابعة على مستوى العالم، وأصبح بفضلها أغنى رجل في روسيا.
هذا ينقلنا للحديث عن أوليغارشي ثالث من مرحلة يلتسين هو فلاديمير فينوغرادوف، الذي كان خلال الحقبة السوفياتية كبير الاقتصاديين في أحد البنوك الستّة الموجودة في الاتحاد السوفياتي. يضاف إلى هؤلاء رومان ابراموفيتش وفلاديمير غوزينسكي وفلاديمير بوتانين والكسندر سمولينسكي. وقد سيطر هؤلاء الأوليغارشيون على ما يفوق السبعين بالمئة من جميع الموارد الاقتصادية الروسية في المرحلة ما بين العامين 1996 و2000.
الأوليغارشيون في ظلّ بوتين
خلال مرحلة يلتسين ارتبط الأوليغارشيون الرّوس بمصالح متشعّبة مع الدوائر الرأسمالية الغربية، ما جعلهم يهملون المصالح الروسية الحيوية المرتبطة بالأمن القومي الروسي. وقد استفاد الغربيون وعلى رأسهم الولايات المتحدة من ذلك لتوسيع حلف شمال الأطلسي إلى وسط وشرق أوروبا، في مخالفة واضحة للوعود التي كانوا قد تعهّدوا بها لميخائيل غورباتشوف بعدم توسيع الناتو إلى مناطق قريبة من الحدود الروسية. ولقد كانت القشّة التي قصمت ظهر البعير هي في الحملة العسكرية التي وجهها الناتو ضد صربيا، حليف روسيا، في ربيع العام 1999 والتي اعتبرت تهديداً غير مباشر لروسيا.
هذا دفع الدّولة العميقة الرّوسيّة المتمثّلة بأجهزة الأمن والجيش والبيروقراطية الرّوسية إلى أن تتحرّك ردّاً على ذلك. وقد تمثّل ذلك بانقلاب غير معلن قادته هذه الدولة العميقة، وتمثّل بتعيين مدير جهاز الأمن الفيدرالي في الاتحاد الروسي فلاديمير بوتين رئيساً للوزراء في صيف العام 1999، بعد أسابيع قليلة على حملة الناتو ضدّ صربيا. وبعد أسابيع قليلة على ذلك قدّم بوريس يلتسين استقالته من رئاسة الدّولة في مقابل وعد بعدم ملاحقته وأفراد عائلته بتهم فساد.
وقد دعم الأوليغارشيون صعود بوتين خوفاً من عودة الشيوعيين إلى السّلطة، خصوصاً أنّ زعيم الحزب الشيوعي الروسي غينادي زوغانوف كاد يفوز بالانتخابات الرئاسية في العام 1996 لولا تدخّل الغرب لدعم يلتسين. في المقابل فلقد تعهّد بوتين بعدم المساس بمصالح الأوليغارشيين مقابل خضوعهم لسلطة الدّولة. ولقد ظنّ بعض الأوليغارشيين أنّ بإمكانهم مواصلة سيطرتهم على الدّولة كما كان الحال في عهد يلتسين، ما جعل بوتين يضربهم بيد من حديد...
خلال مرحلة يلتسين ارتبط الأوليغارشيون الرّوس بمصالح متشعّبة مع الدوائر الرأسمالية الغربية، ما جعلهم يهملون المصالح الروسية الحيوية المرتبطة بالأمن القومي الروسي
جدلية العلاقة بين الأوليغارشيين والدولة
على الرّغم من خضوع الجيل الثاني من الأوليغارشيين الرّوس للدولة، فإنّ الجدل حول دورهم ونفوذهم عاد إلى الواجهة خلال الحرب الأوكرانية. ففي اتصال أجراه كاتب هذه السطور مع المفكّر الروسي الكسندر دوغين الذي يملك تأثيراً كبيراً على دوائر القرار في الدولة الروسية، فإنّ نتائج المعركة في أوكرانيا لم تكن مرضية نتيجة للتّأثير الذي يملكه هؤلاء الأوليغارشيون على القرار السياسي، خصوصاً أنّهم مرتبطون بمصالح مع الرأسمالية الغربية، بحكم امتلاكهم لاستثمارات كبيرة في الغرب. وهو يعتبر أنّه على الرّغم من أنّ الرئيس بوتين استطاع تطويع الأوليغارشيين وتحويلهم إلى أدوات لتنفيذ سياسات الدولة، إلّا أنّ مصالحهم الخاصّة ساهمت حتّى الآن في التردّد باتخاذ قرارات حاسمة أثّرت سلباً على المصالح الحيوية الرّوسيّة وعلى سير العمليات العسكرية في أوكرانيا. ويرى دوغين أنّ تمرّد فاغنر، ولو أنّهم مجموعة ذوي دوافع وطنية، أثبت أنّ الأوليغارشيين يمكن أن يتحوّلوا من أداة في يد الدولة إلى تهديد لها، وأنّه لولا الرّصيد الكبير الذي يمتلكه بوتين لكانت الأحداث أخذت مساراً مختلفاً. ويفيد بأنّ بريغوجين لامس غضب الناس على الأوليغارشيين حين أشار إلى تأثيرهم السّلبي على العمليّة العسكرية في أوكرانيا. ويتوقّع دوغين أن يشكّل حادث التمرّد مقدّمة لتوجّه الرئيس بوتين إلى تقليص نفوذ الأوليغارشيين لصالح الدولة في المرحلة المقبلة، متوقّعاً الإطاحة بالعديد منهم قريباً.