جمال واكيم
في العام 1989 هُزم الاتحاد السوفياتي في الحرب الباردة وبعدها انهار في العام 1991 وقامت على أنقاضه 15 دولة كانت أكبرها روسيا بمساحة تبلغ نحو 17 مليون كيلومتراً مربعاً.
سعي واشنطن للهيمنة العالمية
كان السياسيون الروس الذين قادوا المرحلة الأخيرة من عمر الاتحاد السوفياتي يعتقدون أنهم بإنهائهم للحرب الباردة ينهون الصراع مع الولايات المتحدة الأميركية بما يساهم في دمجهم بالمنظومة الغربية ما يؤمن لهم حصة من الرفاه الذي ينعم به هذا الغرب. لكن ما إن انهار الاتحاد السوفياتي حتى ظهر جلياً أن الصراع كان سيتواصل خصوصاً في ظلّ مخالفة الولايات المتحدة لوعودها للروس بعدم توسيع حلف شمال الأطلسي الناتو شرقاً ليضم بلدانا في وسط وشرق أوروبا على حساب عناصر الأمن القومي الروسي التي كانت تعتبر أن شرق أوروبا يجب أن يبقى محايداً وخارج الاصطفافات العسكرية.
ولم تكتف الولايات المتحدة بذلك، بل إنها مدّت يدها لإحداث حالة لا إستقرار في منطقة القوقاز عبر الدعم غير المباشر الذي قدمه حلفاء لها مثل تركيا والمملكة العربية السعودية للمتمردين الشيشان. عدا عن إقامة الولايات المتحدة لقواعد عسكرية في وسط آسيا التي تعتبر الخاصرة الرخوة لروسيا. لقد كان هذا جزءًا من الاستراتيجية الأميركية للتحسب لصعود روسيا كقوة عالمية تتحدى هيمنة واشنطن خصوصاً إذا ما وصل رجل قوي إلى سدة الرئاسة في موسكو.
كانت واشنطن تعتقد أن تفرّدها بالهيمنة العالمية لن يكون طويلاً في ظل صعود قوى أوراسية مثل الصين وروسيا بعد أن تتجاوز هذه الاخيرة كبوتها. وكانت تعتقد أنها بتوسيع هيمنتها في شرق أوروبا ستصبح قريبة من العمق الروسي المتمثل بموسكو. كما أنها كانت تعتقد أن مدّ نفوذها إلى وسط آسيا كان سيضعها في موقع يمكنها من تهديد الأمن القومي الروسي والأمن القومي الصيني، خصوصاً إذا ما عرفنا أنه عبر التاريخ فإن معظم الغزوات التي كانت تهيمن على روسيا أو الصين كانت تأتي من وسط آسيا.
وقد أردفت واشنطن هذه الاستراتيجية بأخرى تقضي بالسيطرة على المنطقة العربية والإسلامية من المحيط الأطلسي غربا إلى حدود الصين شرقا، بغية تحقيق عدة أهداف. كان الهدف الأول هو منع روسيا والصين ومعهما إيران من الوصول إلى منطقة شرق المتوسط، التي تشكل عقدة المواصلات العالمية وصلة الوصل بين قارات آسيا وأوروبا وأفريقيا. كما كانت تهدف إلى منع روسيا والصين من التغلغل في أفريقيا التي تعتبر ساحة الصراع الرئيسية بين القوى الكبرى في القرن الحادي والعشرين. إضافة إلى ذلك فإن واشنطن كانت تريد أن تجعل من هذه المنطقة عازلاً بين أوروبا وأفريقيا جنوب الصحراء بما يضمن الهيمنة الأميركية على أوروبا من جهة، ويجعل وصول القارة العجوز إلى أفريقيا يمرّ عبر الولايات المتحدة.
رد الفعل الروسي – الصيني
هذه الاستراتيجية الأميركية جعلت موسكو وبكين تتقاربان منذ أواسط التسعينات من القرن الماضي عبر تشكيل مجموعة "شنغهاي خمسة" المكونة من روسيا والصين وكازاخستان وقرغيزستان وطاجيكستان. وبعدما انضمت أوزبكستان إلى هذه المجموعة في حزيران 2001 تم الاعلان عن قيام منظمة شنغهاي للتعاون، والتي نصت في وثيقتها التأسيسية على أنها تسعى إلى ضمان الأمن والاستقرار في وسط آسيا. وكانت بكين وموسكو بذلك تريدان إغلاق المنطقة المهمة جدا بالنسبة لأمنهما القومي أمام تغلغل نفوذ الولايات المتحدة الأميركية. هذا ما دفع بالمنظمة إلى رفض طلب واشنطن بالانضمام إلى المنظمة ولو كعضو مراقب.
وتوسعت عضوية المنظمة في وقت لاحق لتضم إلى صفوفها كلا من الهند وباكستان، إضافة إلى قبول أفغانستان وروسيا البيضاء وإيران ومنغوليا كعضو مراقب، وأرمينيا وأذربيجان وكمبوديا ومصر ونيبال وقطر والمملكة العربية السعودية وسريلانكا وتركيا كعضو محاور، إضافة إلى انضمام تركمانستان وعدد من المنظمات الدولية كضيوف على المنظمة. بهذا باتت المنظمة تضم 60 بالمئة من مساحة أوراسيا (قارتي أوروبا وآسيا) إضافة إلى 40 بالمئة من سكان العالم.
بذلك تمكنت روسيا والصين من تشكيل أكبر ائتلاف لقوى برية في العالم. لكن الجدير ذكره أن الولايات المتحدة، بتمتعها بالنفوذ الأكبر في المنطقة العربية والإسلامية من جهة وعبر سيطرتها على طرق الملاحة البحرية من جهة أخرى، كانت تشكل أكبر قوة بحرية في العالم. هذا سيدفع بالصين وروسيا إلى البحث عن وسيلة للالتفاف على مناطق النفوذ الاميركية ومحاولة اقامة خط بحري في النصف الجنوبي من الكرة الأرضية يمتد من جنوب بحر الصين عبر المحيط الهندي ومنه إلى جنوب افريقيا وأميركا اللاتينية. هذا سيدفع بالقوّتين إلى إقامة تحالف يضم إلى روسيا والصين كلاً من الهند وجنوب أفريقيا والبرازيل.
مع حلول العام 2014 كانت منظمة البريكس تتحضر لإطلاق مرحلة جديدة من دورها عبر عقد قمة في ريو دي جانيرو في البرازيل أعلنت فيه إطلاق بنك التنمية برأسمال قيمته مئة مليار دولار أميركي ليكون بديلا عن صندوق النقد والبنك الدوليين. كان هذا يفتح المجال أمام القوى الطامحة لانتزاع دور مستقل في العالم من تحدي الهيمنة الأميركية على قطاع المال. هنا ستردّ واشنطن بدعم انقلاب دستوري ضد الرئيسة البرازيلية ديلما روسيف (2013 – 2016) أتى بميشال تامر، المقرّب من واشنطن رئيسا للبلاد. هذا وجه صفعة قوية لمنظومة البريكس التي تعطل تطوّرها طوال سبعة أعوام في ظل حكم ميشال تامر وهايير بولسونارو كرئيسين للبرازيل. وقد اتبعت الولايات المتحدة ذلك بإثارة ثورة ملونة في جنوب أفريقيا وبتأليب الهند ضد الصين وباكستان.
آفاق الصراع
وفي محاولة منها لحشر خصومها، حرّضت واشنطن كييف ضد موسكو محاولة جعل أوكرانيا قاعدة لها للضرب في العمق الروسي. كذلك فإنها صعّدت الضغوط على إيران بعد انسحابها في العام 2018 من الاتفاق النووي مع طهران. إضافة إلى ذلك فإنها شنت حرباً تجارية ضد الصين وزادت التوتر في منطقة المشرق العربي.
لكن موسكو ردّت بشن عملية عسكرية لتحييد أوكرانيا، في الوقت الذي فاز فيه عدد من مرشحي اليسار بالسلطة في دول أميركا اللاتينية كان آخرهم الزعيم اليساري لولا دا سيلفا الذي سبق وكان رئيسا للبرازيل من العام 2003 إلى العام 2012. ومن شأن هذا أن يعيد ترجيح الكفة إلى القوى العالمية التي تريد مواجهة هيمنة واشنطن ما سيفتح فصلاً جديداً في الصراع الدولي.