ويأتي هذا النشاط الدبلوماسي الرسمي لتمتين العلاقات بين الصين والقوى الغربية الكبرى، خاصّة بعد أن عمد الغرب إلى تخفيض اعتماده على الصين بسبب الحرب الروسية الأوكرانية.
تواصل الصين العمل على تأكيد حضورها في مختلف المجالات، وها هي اليوم تخطو خطوات عملاقة باتجاه الدول الغربية. وفيما كانت زيارة وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إلى بكين ولقائه بنظيره الصيني تشين قانغ موضع رصد واهتمام دوليَيْن، جاء لقاءه بالرئيس الصيني شي جين بينغ تتويجاً لهذه الزيارة وهي أول زيارة أميركية رفيعة المستوى لبكين منذ ما يقارب الخمس سنوات. في غضون ذلك، زار رئيس مجلس الدولة الصيني لي تشانغ هذا الأسبوع كلّاً من ألمانيا وفرنسا.
ويأتي هذا النشاط الدبلوماسي الرسمي لتمتين العلاقات بين الصين والقوى الغربية الكبرى، خاصّة بعد أن عمد الغرب إلى تخفيض اعتماده على الصين بسبب الحرب الروسية الأوكرانية. كما يأتي في الوقت الذي ارتفعت فيه نسبة البطالة في الصين بالإضافة الى القيود التي اعتمدتها من أجل مواجهة وباء كورونا. ما دفع بالصين إلى الإسراع بالانفتاح على الغرب لاستغلال الخلافات "إذا صحّ التعبير" بين الولايات المتحدة وأوروبا.
منظور أوروبا
القوى الأوروبية الكبرى متردّدة حول مجاراة الأميركيين في إقامة عوائق أمام الاقتصاد الصيني، فهذه القوى تفضّل عدم المخاطرة والإبقاء على "شعرة معاوية" مع الصين، لاقتناعها بضرورة الإبقاء على المشاركة الاقتصادية الصينية – الأوروبية مفتوحة.
مع أخذ ذلك بعين الاعتبار، تمّ الإعداد بعناية للزيارة التي قام بها رئيس مجلس الدولة الصيني لي تشانغ إلى برلين في 20 حزيران الحالي، والتي تضمّنت لقاءً مع المستشار أولاف شولتز، وقد سافر لهذه الغاية كبير الدبلوماسيين الصينيين "وانغ يي" قبل الزيارة في أوائل حزيران للتأكد من أن اجتماع لي - شولتز "سيبقي التعاون الصيني الألماني في الصدارة".
ومع ذلك، قبل أيام فقط من لقاء رئيس مجلس الدولة الصيني، نشرت ألمانيا استراتيجية للأمن القومي، تصف فيها الصين بأنها "شريك ومنافس منهجي"، وتشير إلى أن "عناصر المنافسة قد ازدادت في السنوات الأخيرة". بالإضافة إلى ذلك، عُلم أنّ برلين حثّت بكين على وجوب تقليص عدد وزرائها المشاركين في القمّة حتى لا تعطي حلفاءها - خاصة واشنطن - الانطباع بأنّها ترحّب بشدة بالصين، كون زيارة شولتز إلى بكين في شهر تشرين الثاني من العام الفائت تعرّضت لانتقادات كثيرة لكونها كانت ودية للغاية.
تأتي هذه الوثيقة الإستراتيجية الألمانية وسط تقارير تفيد بأنّ فرنسا تضغط على المفوضية الأوروبية لاتّخاذ إجراءات ضدّ ما تعتبره مزايا تجارية غير عادلة للصين، خاصّة في مجال صناعة السيارات الكهربائية.
لا تزال الصين بحاجة إلى استثمارات أميركية وأوروبية للدفع بنموّها الاقتصادي، خاصّة أنّه لا يمكنها تحمُّل خسارة كلا السوقين.
لا تزال الصين بحاجة إلى استثمارات أميركية وأوروبية للدفع بنموّها الاقتصادي، خاصّة أنّه لا يمكنها تحمُّل خسارة كلا السوقين. ففي العام الفائت، كانت الولايات المتحدة ثاني أكبر مستورد للسلع الصينية، حيث شكّلت وارداتها من الصين أكثر من 15 في المائة من وارداتها الإجمالية.
دون أدنى شك، إنّ صادرات الصين حافظت حكماً على نموّها الاقتصادي، بينما الاستثمارات الأجنبية جلبت لها رؤوس الأموال والتكنولوجيا لمساعدة شركاتها على النمو، كما جعلتها قادرة على منافسة البلدان الصناعية الأخرى، "فالصادرات المرتفعة تعني اقتصادًا مستقرًا."
التباطؤ الاقتصادي
تعهد رئيس بنك الشعب الصيني يي جانج في أوائل هذا الشهر، بأنّ البنك المركزي الصيني سيواصل تنفيذ سياسات نقدية حكيمة مع دعم الاقتصاد الحقيقي وتعزيز التوظيف والحفاظ على استقرار العملة والاستقرار المالي.
بشكل غير مباشر، تشير هكذا تصريحات إلى أنّ الصين تواجه أربع تحديات رئيسية: تباطؤ النمو الاقتصادي، تباطؤ سوق العقارات، ارتفاع الديون وارتفاع نسبة البطالة.
وقد أشارت الأرقام الرسمية الصينية إلى أنّ معدل البطالة بين الشباب (الذين تتراوح أعمارهم بين 16 و24 عامًا) سجل رقماً قياسياً بلغ 20.4٪ في شهر نيسان من العام الحالي، حيث أنّه في هذا الشهر أنهى 11.6 مليون طالب صيني دراستهم في الكليات والمدارس المهنية وبدأوا في البحث عن عمل. وفي وقت سابق من هذا العام، أعلنت بكين عن عدة برامج للحدّ من البطالة، منها برامج لتوسيع التدريب الوظيفي والصناعي، وتوفير الدعم المالي للشركات الناشئة وتشجيع الشركات على توظيف المزيد من الشباب.
ووفقًا لمركز الاستثمار العالمي للأسواق Foreign Direct Investment (FDI)، شهدت الصين انخفاضًا في عدد مشاريع الاستثمارات الأجنبية المباشرة المعلنة بنسبة 24 في المائة.
وبالنّظر إلى أنّ بطالة الشباب التي تتركز في المناطق الحضرية، فإن خروجهم من المدن يمكن أن يساعد في إعادة التوازن إلى الاقتصاد. لكن "قول ذلك أسهل من فعله"، فالانتقال من المناطق الحضرية إلى الريف ليس بالأمر السهل وبشكل خاص في الصين، كون المدن الصغيرة والمناطق الريفية تتمتّع بوسائل راحة منخفضة الجودة مقارنة بالمدن الكبرى، وهذا ليس فقط في الصين بل في معظم الدول ذات الدخل المتوسط. في حين أنّ بعض مدن "الدرجة الأولى" في الصين تبدو أكثر ازدهارًا من نيويورك أو طوكيو حتى، وبالتوازي فإنّ الكثير من مدن الدرجة الثالثة تكافح من أجل توفير طاقة مستقرة وخدمات صرف صحي أساسية. نتيجة لذلك، يتجنّب معظم خريجي الجامعات الانتقال إلى مناطق ريفية، ويعتمدون على الدعم المباشر من أهلهم للبقاء في المدن الكبرى حتى يتمكّنوا من العمل.
كل هذا سيجعل القيادة الصينية أكثر استعدادًا للعمل مع الأوروبيين لتوسيع التجارة. ولكن للقيام بذلك، تحتاج بكين إلى الوقوف ضد روسيا بشأن أوكرانيا، أو على الأقل التوقف عن دعمها واستيعاب الولايات المتحدة. بالمقابل، ينبغي أن تكون واشنطن على استعداد لتلقّف هذه المبادرة الصعبة التنفيذ من قبل الصين لمتابعة التفاوض. وبالتالي، فإنّ زيارة بلينكن ليست مجرد محاولة لإصلاح العلاقات، بل هي أيضًا خطوة نحو قياس النوايا الصينية.