ليست المسألة عند "التيار الوطني الحرّ" والمعارضة بتلاوينها المختلفة حبّاً بجهاد أزعور، وإنّما هي مسألة نفور، والنفور هنا من رئيس تيّار "المردة" سليمان فرنجية الذي تتقاطع المعارضة والتيار على العمل لإسقاط ترشيحه، ولكن كلّ محاولاتهما لم تنجح حتّى الآن مع دخول الفراغ الرئاسي شهره الثامن.

يدرك "التيار" والمعارضة منذ بزوغ "فجر" الاستحقاق الرئاسي أنّ فرنجية سيكون مرشّح الثنائي الشيعي وحلفائه، بل أنّهما كانا يدركان هذا الأمر منذ انتخاب الرئيس ميشال عون في 31 تشرين الأول 2016، يوم كاد أن يكون هو البديل لعون بدعم سعودي وفرنسي وأميركي وروسي، لو لم يبادر الرئيس سعد الحريري الذي رشّحه في مواجهة عون، إلى التخلّي عن ترشيحه والتوافق ورئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع إلى تبنّي ترشيح عون نفسه الذي تمسك به حزب الله طوال سنتين ونصف سنة من الفراغ الرئاسي إلى حين انتخابه.

حزب الله الآن يكرّر الآية نفسها مع فرنجية، ولكن مع فارق أنّ رئيس مجلس النواب نبيه بري شريكه فيها بالتمام والكمال، ولكنّه لم يكن شريكه في انتخاب عون، وظلّ على خصومة سياسية معه طوال عهده، والجميع يعرف بقية التفاصيل..

مكانياً لا فارق بين ترشيح النائب ميشال معوض وترشيح الوزير السابق جهاد أزعور، فكلاهما من منطقة زغرتا معقل آل فرنجية أباً عن جد، أمّا سياسياً فلا فارق في هدف مُرشّحيهما من ترشيحهما وهو منافسة خصمهم فرنجية في عقر داره، لأنّه ينتمي إلى "محور المقاومة والممانعة" وأنّ هذا المحور يريد "فرضه" على المسيحيين، حسب تبريراتهم لمعارضة ترشيحه.

ولكنّ هذه المسائل هي بمثابة قشور، بل نزاعات محلّية ضيّقة لا يمكنها التغطية أو التعمية على حقيقة الاستحقاق الرئاسي بأبعاده الداخلية والاقليمية والدولية، وبالتداعيات التي فرضها ويفرضها الاتفاق السعودي ـ الإيراني وكذلك الاتفاق السعودي ـ السوري على لبنان والمنطقة عموماً.

عندما طرح الفرنسيون معادلة: "سليمان فرنجية رئيساً للجمهورية ونواف سلام رئيساً للحكومة"، لم يكن ذلك مبادرة فرنسية معزولة عمّا يجري إقليمياً ودولياً، وعن طبيعة التوازنات اللبنانية المستمدّة من التوازنات الخارجية. فخلاف الكبار هو غير خلاف الصغار، واتفاق الكبار هو غير اتفاق الصغار، ومع ذلك لا زال بين القوى السياسية اللبنانية من يقرأ التوازنات والأحداث الإقليمية والدولية من الزاوية الزبائنية والنفعية الضيقة، معتقداً أنّ الآخرين ملزمين بخدمة مصالحه من دون أن يدرك أنّ النظام العالمي الجديد المتنامي لا مكان فيه لـ"الجمعيات الخيرية والسياسية"، وأنّ سياسة المصالح والتحالفات الكبرى فقط هي التي تحكمه، فمن يلتحق بركبه ينجو، ومن يتخلّف يهلك.

فالمعاندة التي يبديها "التيار الوطني الحر" من جهة، والمعارضة التي تجمع "القوات اللبنانية" وحلفائها من جهة أخرى، يقول عنها المطّلعون على ما يدور في الكواليس، أنّها لن تؤدّي إلى نتيجة، ولن تغيّر في المعادلة التي رسمت للمرحلة داخلياً وخارجياً، خصوصاً وأنّ قراءة البعض لما يجري ولأدوار اللاعبين المنخرطين في لعبة الأمم هي قراءة خاطئة حتى الآن. الثنائي الوطني وحلفاؤه من كل الطوائف والانتماءات السياسية فهموا اللعبة وبنوا خيارتهم السياسية المرحلية، وربما الاستراتيجية على أساسها، بينما الفريق الآخر يعيش حال تخبّط وإرباك ظناًّ منه أنّه إذا فاز بخيار رئاسي من كنفه، يمكن أن يغير قواعد اللعبة، بل قواعد الاشتباك السياسي الجديدة لمصلحته، غير مدركٍ أنّ هذا التغيير إذا حصل لن يكون في مصلحته، لأنّه سينقل لبنان كنظام سياسي من اتفاق الطائف ودستوره الذي قامت على أساسه "الجمهورية الثانية"، إلى مؤتمر تأسيسي يقيم "الجمهورية الثالثة" ويسقط صيغة المناصفة "الطائفية" (نسبة إلى اتفاق الطائف) التي أريد منها طمأنة المسيحيين بالدّرجة الأولى كجماعة بشرية وسياسية في آن. 

في الآونة الأخيرة، وحسب مرجع سياسي كبير، أجرى الفرنسيون مراجعة شبه نهائية لمعادلة "سليمان فرنجية ـ نواف سلام" وجاءت النتائج مشجّعة بقوة. المسؤولون السعوديون قالوا للفرنسيين "لا مشكلة" في انتخاب فرنجية رئيساً للجمهورية اللبنانية، و"الثنائي الشيعي" قال لهم، أي للفرنسيين، أنّ تولّي نواف سلام رئاسة الحكومة "قابل للبحث"(وهذه العبارة هي الاسم الحركي للقبول)، وقد نقل الفرنسيون جواب الرّياض إلى "الثنائي" ونقلوا في المقابل جوابه إليها، ولم يتبق إلّا تحديد ساعة الإخراج ويبدو أنها اقتربت، وباتت العيون مفتوحة على مواعيد الرئيس نبيه بري الحزيرانية.

عندما عاد باسيل إلى لبنان راح يبحث عن اتفاق مع المعارضة على مرشّح ينافس فرنجية، فوجد والمعارضة ضالتهما بالوزير السابق جهاد أزعور

عندما زار رئيس "التيار الوطني الحر" النائب جبران باسيل الفاتيكان في الآونة الأخيرة قال له المسؤولون هناك بلغة النّصح أن يتعاون مع الجميع لانتخاب رئيس جمهورية في أسرع وقت بالتوافق او بالتنافس الديموقراطي. كذلك قالوا له ما حرفيته: "لا تختلف مع حزب الله". ومن الطبيعي أنّ الفاتيكان لا يقصد بالحزب هنا جماعة من الشيعة أو الطائفة الشيعية في لبنان فقط، وإنّما بما يمثّله من بعد وثقل إقليميين". وعندما انتقل إلى باريس سمع باسيل النصيحة نفسها، وأكثر من ذلك لمس تمسّكاً بمعادلة فرنجية ـ نواف سلام.

وعندما عاد باسيل إلى لبنان راح يبحث عن اتفاق مع المعارضة على مرشّح ينافس فرنجية، فوجد والمعارضة ضالتهما بالوزير السابق جهاد أزعور، لكن الأخير يعيش شيئاً من الحيرة وهو يقرأ ما يجري داخلياً وفي الخارج بإمعان، فيما ينقل بعض عارفيه عنه أنّه يرفض أن يكون "مطية" أو "منصّة" لمواجهة فرنجية، فيما هو يرى أنّ "التيار" والمعارضة لن يتمكّنا من إيصاله إلّا إذا توافقا مع الفريق الآخر، وهذا التوافق مستبعد في ظل تمسّك "الثنائي الشيعي" حتى النهاية بترشيح فرنجية. كما أنّ أزعور الذي يصنّفه البعض في "الخانة الأميركية" لا يرى أنّ هناك قوة دفع أميركية يمكنه التعويل عليها، خصوصاً فيما هو يسمع أنّ واشنطن تميل إلى قائد الجيش العماد جوزف عون. ولكنّ العارفين يؤكدون أنّ الموقف الأميركي المعلن بأن ليس لدى واشنطن مرشحين، وأنّها ستتعاون مع أي رئيس ينتخب، هو موقف جدّي لأنّها أخذت الترسيم الحدودي البحري وستأخذ حاكمية مصرف لبنان التي قد تؤول إلى أزعور على الأرجح، ما يفرض عليها في المقابل أن تعطي، والعطاء سيكون رئاسياً مطمئناً للطرف المتلقّي.   

أمّا البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي فقد سمع من السكرتير الكاردينالي لدولة الفاتيكان والملقّب برئيس حكومة الفاتيكان نصيحة للمسيحيين واللبنانيين بالإسراع في انتخاب رئيس للجمهورية تنافساً أو توافقاً، لأنّ استمرار الفراغ يشكّل خطراً كبيراً على مصير لبنان، خصوصاً في ظلّ الانهيار الاقتصادي والمالي الذي يرفع بنسب كبيرة معدّلات الهجرة في صفوف اللبنانيين عموماً والمسيحيين خصوصاً.

أمّا في باريس فقد سمع الراعي من الرئيس الفرنسي دعوة إلى انتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية في أسرع وقت سواء بالتوافق أو بالتنافس إذا ظلّ التوافق متعذراً. وكذلك سمع شرحاً فرنسياً لمعادلة فرنجيةـ سلام مشفوعة بالأسباب الموجبة التي تفرضها.

أمّا شيفرة موقف رئيس الحزب التقدمي الاستراكي المستقيل وليد جنبلاط الذي أخرج نفسه من دائرة الترشيحات الرئاسية في الطريق إلى "التقاعد" الحزبي لا السياسي، فقد فكّها أحد نواب حزبه فيصل الصايغ عندما قال "أنّنا ننتخب أزعور بشرط أن يكون مرشحاً توافقياً وأن يحظي بموافقة "الثنائي الشيعي"، وإلّا سنقترع بالورقة البيضاء".

يبقي أنّ كل الاحتمالات واردة وأنّ كل المفاجآت واردة من الآن وحتّى 15 حزيران، والبعض يتوقّع بقوّة أن تأتي المفاجأة الحاسمة من أحد ثلاثة: إمّا "التيار الوطني الحر" وإمّا "القوات اللبنانية"... وإمّا من كلمة سر تمرّر لمجموعات نيابية، فتتكتّل وتنزل إلى البرلمان لتكمل نصاب جلسة تنتهي بانتخاب رئيس.