"أنتظر الفرصة لأترك لبنان مع عائلتي، لن نعود إلى سوريا، سنهاجر إلى أوروبا، والخيار بين فرنسا وألمانيا". بهذه الكلمات يعبّر محمود س. عن لسان حال غالبية النازحين السوريين الذي يقيمون في لبنان، ولا سيما أولئك الذين يخشون أن تكون القمة العربية الأخيرة التي عُقدت في جدّة هي بداية عملية إعادتهم إلى وطنهم الأم.

يعمل محمود س. وهو رجل أربعيني مع أخيه في محال للخضار، كما أن أولاده يحصّلون مصروفهم من أشغال مختلفة، ويضاف إلى هذا الدخل المساعدات المالية الشهرية التي تصل إلى العائلة من المنظمات الأممية. "المال الذي نجنيه، نجمعه لندفع كلفة السفر ومصاريفه" يجيب محمود الذي يؤكّد أنّه لن يسافر بمثل تلك المراكب التي غرقت، فمن يتواصل معهم من سماسرة التهريب وَعَدوه بسبل أكثر أماناً.


كلام محمود عن "مراكب الموت" كما تمّت تسميتها أعاد إلى ذاكرة زوجته مشاهد الأطفال الذين غرقوا وقصص العائلات المفجوعة. قاطَعَته مؤكّدة "إمّا سفرة مضمونة وآمنة أو لا سفر". وتدرّج الحوار بينهما وتوسّع حتى عاد إلى نقطة توافقا عليها وهي أنّ المخاطرة ستبقى موجودة ولكن العمل هو على الحدّ منها.

تهريب البشر تحوّل إلى منجم ذهب بالنسبة للمهرّبين

وتنشط شبكات تهريب البشر بوسائل وطرق متنوعة، خصوصاً أن المسألة تحوّلت إلى منجم ذهب للمهرّبين. وتعمل هذه الشبكات بشكل متواصل على نقل المهاجرين غير الشرعيين بحراً وبرّاً وجواً لقاء مبالغ مالية تصل إلى آلاف الدولارات عن كل فرد من أفراد العائلة، وإن كان السفر بحراً هو الأرخص من بين هذه الخيارات.

نشر الشاب الثلاثيني الملقّب بـ "أبو علي" الخريطة أمامنا، كانت الوشوم تغطي يديه وهو يظهر لنا سبل التنقل من مكان إلى آخر وبدأ يشرح عن طريقة السفر إلى تركيا للسياحة أولاً، حيث يمكن حجز بطاقة سفر بالطائرة يتراوح سعر البطاقة ذهاباً وإياباً بين 100 و 300 دولار أميركي بحسب الموسم، ومن الضروري حجز بطاقة العودة منعاً للشبهات. ومن تركيا، هناك العديد من المراكب واليخوت التي تنطلق في رحلات بحرية إلى الموانئ الأوروبية القريبة، وبحسب المركب وعدد المسافرين يمكن أن يرتفع السعر أو ينخفض، وقد يبدأ بنحو ألفي دولار أميركي ويصل أحياناً إلى حدود 10 آلاف.

أما الوجهة الأولى فهي اليونان ومن بعدها بلغاريا، بعض المهربين يتقاضون مبالغ الرحلة البحرية فقط، ومنهم من يتكفل بإيصال المهاجرين إلى وجهاتهم النهائية عبر طرق تخلط بين الجو والبحر والبر.

"كلّو بسعرو" يقول "أبو علي" وهو يؤكّد أن معارفه يتولون دفع الرشاوى عند نقاط حدودية عدة، وأن المسألة هي بكل بساطة عبارة عن شبكة مصالح ومعارف وأرباح طائلة في ظل الأزمات الاقتصادية والمالية الخانقة التي تضرب العالم أجمع وخاصة صغار الموظفين، ويكون حرس الحدود أول المنتفعين.

ولدى سؤاله عن زبائنه يقول "أبو علي" صحيح أنّ أغلبهم من السوريين الذين نجح أقاربهم بالوصول إلى أوروبا، حيث أرسلوا يخبرونهم عن الأحوال هناك، إلا أنّ أعداد اللبنانيين أيضا ليست بقليلة، كما أن بعض اللاجئين الفلسطينيين وعرب من جنسيات أخرى بدأوا ينضمون إلى لائحة "المستفيدين من خدماتنا".

الأزمة المالية والاقتصادية والاجتماعية في لبنان أصابت اللبنانيين كما النازحين السوريين إضافة الى اللاجئين الفلسطينيين. وفيما كان النازحون ينافسون اللبنانيين في مجالات العمل اليدوي في الزراعة والبناء بداية وبشكل موسمي، تحولوا إلى اليد العاملة في طول البلاد وعرضها. وهم اليوم يعملون في أغلب المجالات، من محال تجارية إلى محال الخضار، إلى صالونات الحلاقة وفي مجالات التصليح وغيرها. حتّى أن الأمور وصلت إلى منافسة السوريات للبنانيات على نسب الولادة وتحول الأمر إلى ما يشبه مادة للتندّر.

 حتى أنّ نقابات عمّالية كثيرة حذّرت من مخاطر الاستعانة بسوريين للعمل، ما يهدد بدفع أصحاب الاختصاص اللبنانيين إلى الهجرة. فهذه المزاحمة دفعت باللبنانيين إلى مزاحمة السوريين على حجز الأماكن في قوارب الموت. ودوماً أوروبا هي الوجهة. وللقارّة الأوروبية تاريخ طويل في مجال توفير ملاذ آمن للاجئين. وقد وقّعت أغلب الدول الأوروبية على اتفاقية خلال العام 1951 الخاصة بوضع اللاجئين الذين اضطروا لترك بلادهم نتيجة الحرب العالمية الثانية.

النازحون السوريون في لبنان اليوم يواجهون مسألة عدم توقيع لبنان على اتفاقية اللاجئين، وهو ما تحاول المفوضية العليا لشؤون اللاجئين التحايل عليه من خلال اشتراطها على السلطة اللبنانية إعطائهم إقامات مقابل تسليمها الداتا الخاصة بالنازحين، وهو ما ترفضه بيروت لأسباب مختلفة، وترى جهات لبنانية عدّة أنّ منح الإقامة مقدّمة للتوطين وهي قضية تهدّد الهوية الوطنية والتوازن الديموغرافي الهشّ، خصوصا في ظل الأزمات التي ضربت البلاد.

موضوع النزوح السوري إلى لبنان يصعد إلى السطح ويبقى حتى تحلّ أزمة أخرى تحجبه لبعض الوقت قبل أن يعود للظهور أقوى من قبل، كون المسألة قضية تتطور بشكل مستمرّ مع تزايد أعداد النازحين مقابل تدهور الأوضاع المعيشية في لبنان. وهو تدهور يصيب جميع القاطنين.

بالأمس وفي إطار ما خرجت به القمة العربية من مقرّرات كان لدمشق حصتها، حيث دعا البيان الختامي إلى: "تكثيف الجهود العربية الرامية إلى مساعدة سوريا على تجاوز أزمتها. وتعزيز الظروف المناسبة لعودة اللاجئين السوريين والحفاظ على وحدة وسلامة أراضي سوريا". هذه النقاط رأى فيها البعض فرصة مناسبة لإعادة طرح مسألة النازحين السوريين في لبنان، انطلاقا من أن إعادة إعمار سوريا ستكون بحاجة لليد العاملة، وبالتالي سيتوفر مصدر دخل جيد وفرص عمل للجميع وقد تكون أوضاع سوريا أفضل من الأوضاع في لبنان، أقلّه لجهة الاكتظاظ السكّاني، إن أغفلنا باقي العناوين.