تبقى أزمة الدين العام اللبناني السبب الأساسي للأوضاع الحالية التي نعيشها. هذا الدين الذي كان ولا يزال عقبة أساسية أمام تخطّي الأزمة الإقتصادية والمالية والنقدية والمصرفية التي تعصف بلبنان، أصبحت معالمه غير واضحة مع استحقاقه بالكامل لصالح المُقرضين بعد تخلّف الدولة. فعمليات تبادل سندات الخزينة بالدولار الأميركي (Eurobonds) حصلت وأصبح حاملو هذه السندات غير معروفين بدقّة، كما أنّ النسب التي يحملونها غير معروفة أيضًا، إلّا أنّ الأكيد أنّ النسبة الأكبر والتي بإعتقادنا تُقارب الـ 85%، هي ممسوكة من القطاع المصرفي اللبناني من أموال المودعين.

الدين العام وصل إلى 96 مليار دولار أميركي قبل الأزمة (على دولار 1507.5) منها النصف تقريبًا بالدولار الأميركي. ويأتي التنصّل من هذا الدين في خطّة الحكومة ليزيد من حدّة الأزمة أكثر مما يحصل عادة، إذ أنّ أكثر من ثلاثة أرباع هذا الدين هي من أموال المودعين، وبالتالي أي عملية تنصّل من هذا الدين ستضرب بالدرجة الأولى هؤلاء! مع العلم أنّ مسؤولية تركيز أموال المودعين في إستثمارات سيادية لبنانية هو أمر برهن القضاء ك، لمعرفة الأخطاء ومحاسبة المخطئين. قضم ودائع المودعين هي جريمة بحقّ شعب بالكامل!

الدين العام اللبناني تراكم مع عجز الموازنات على مرّ السنين. فمجموع عجز الموازنات من العام 1993 وحتى العام 2019 فاق الـتسعين مليار دولار أميركي، وبالتالي هذا الدين هو نتاج أكيد للسياسات المالية التي إتبعتها الحكومات على مرّ السنين عملًا بمبدأ القيود على الموازنات والتي يُمكن كتابتها في المعادلة الحسابية التالية:

إصدارات سندات جديدة + الضرائب = خدمة الدين العام + الإنفاق العام.

وإصدارات سندات الخزينة شملت إصدار سندات بالدولار الأميركي أو ما يُعرف باليوروبوندز، وسندات بالليرة اللبنانية، بالإضافة إلى تسهيلات من مصرف لبنان. وبدل أن تعمد الحكومة إلى إعادة جدولة هذا الدّين (أقلّه الدين الداخلي)، عمدت إلى وقف دفع دينها وهو ما ضرب بشكل مباشر الليرة التي تقهقرت مع إستنزاف الإحتياط كنتيجة لسياسة الدعم.

وعمدت الحكومة بعدها إلى وضع خطّة مبنية على ثلاثة محاور أهمّها خفض قيمة الليرة اللبنانية وذلك بناءً على مبدأ تذويب الدين العام بالليرة اللبنانية (خطة بنك لازارد). ففي دراسة تعود للباحث «رينهارت» في العام 2010 بعنوان Growth in a Time of Debt، يُظهر رينهارت أنّ هناك علاقة بين النمو، والدين العام والتضخم في الولايات المُتحدة الأميركية للفترة المُمتدّة من العام 1970 ولغاية العام 2010. ويقول رينهارت أنّ التضخّم له دور تنظيمي في أوقات الأزمات حيث يسمح بإعادة التوازن المالي. ويُضيف الباحث أنّ تضخماً بنسبة خمسة إلى ستة بالمئة يسمح للإقتصاد الأميركي بتخفيف وزن خدمة الدين العام عملاً بمبدأ أنّ خفض معدل الفائدة الحقيقية لن يكون له تأثير على الأميركيين وسيسمح بخفض الدين العام الأميركي، بحكم أن خفضًا في معدل الفائدة الحقيقية يعني خفضًا في الفائدة المدفوعة للمستثمرين الذين هم في أغلبيتهم أجانب (قسم كبير من الإستثمارات في الولايات الأميركية تعود للأجانب). الجدير ذكره، وبحسب علم الاقتصاد، التضخّم لا يقضي على الدين العام إنما تسارع التضخّم هو الذي يقضي على الدين بمعنى أخر هناك إلزامية لخلق تضخّم يفوق توقعات المُستثمرين.

بالطبع هذا الأمر لا ينطبق على الحالة اللبنانية بحكم أنّ نصف الدّين العام تقريبًا هو بالدولار الأميركي في حين أنّ الدين الأميركي هو بالدولار الأميركي فقط. أضف إلى ذلك أنّ المقرضين الأساسين للدولة اللبنانية هم البنوك اللبنانية ومصرف لبنان مما يعني أنّ الخسارة الكبرى الآتية من التضخّم تضرب المواطن اللبناني بالدرجة الأولى. أيضاً وبحسب علم الاقتصاد، إعتماد (تسارع) التضخّم كحلّ لخفض الدين العام، يُجبر الأجيال القادمة على قبول نسب تضخّم عالية أو إعادة إظهار الدين العام في محاولتهم لتثبيت الأسعار.

المُشكلة أنّ الحكومة إعتمدت حلًا (سهلًا بالظاهر!) ينصّ على شطب الودائع وطبع العملة والإقتراض من جديد من صندوق النقد الدولي من باب "عفا الله عما مضى". إلّا أنّ هذا الحلّ سيجلب كل المشاكل التي طرحناها أعلاه وبالتالي توقّعاتنا أنّ لبنان سيحتاج لعشرات السنين ليخرج من هذه الأزمة!

لذا يظهر مما تقدّم أنّ حلّ مُشكلة الدين العام مع ما له من تداعيات على العملة الوطنية، وعلى التضخّم، وعلى الودائع، وعلى الثقة بالإقتصاد اللبناني، يفرض مُعالجة تضّمن مصلحة المواطن اللبناني وثقة المستثمرين. وبالتالي فإنّ شطب دين الدولة لا يُراعي مصلحة المودع والأصول المالية ولا ثقة المستثمرين، ناهيك عن انتهاك الحكومة اللبنانية لمبدأ الديموقراطية من خلال الضريبة غير المرئية على الشعب اللبناني عبر الـ«Seigniorage». للتذكير، يفرض مبدأ الديموقراطية على المسؤولين أن تكون الضرائب على الشعب مرئية وتمرّ عبر المجلس النيابي الذي يُمثّل الشعب.

أساس المشكلة كان ويبقى السياسات المالية للحكومات المتعاقبة على السلطة في لبنان، ومعالجة الأمر تبدأ من كسر النهج المُتبع والذي حمّل المواطن التداعيات السلبية للخيارات التي قامت بها هذه الحكومات. حجم الدولة في الاقتصاد وصل إلى مستويات لا يُمكن لأي إقتصاد تحمّله، لذا نرى الدول المتطورة هي الدول التي حجم القطاع العام فيها قليل نسبيًا (لا يتخطّى الـ 12% مقارنة بلبنان 33% قبل الأزمة)! هذا الحجم مع الفساد المُستشري فرض عجزاً مُزمناً في الموازنات وجعل الإقتراض حتمي.

لذا ومن هذا المُنطلق، أيّ حلّ للأزمة يجب أن يبدأ بإصلاحات في القطاع العام وحلّ مُشكلة الدين العام وإستطرادًا إعادة هيكلة القطاع المصرفي مع الأخذ بعين الإعتبار مصلحة المواطن اللبناني وودائعه كأولوية في أي خطّة حكومية. فرفع أجور القطاع العام بدل مُحاربة التهريب الجمركي والتهرّب الضريبي، وضبط الأسعار، لا يعني أخذ مصلحة المواطن بعين الإعتبار لأنّ الحكومة تدفع بالشعب أكثر إلى الهوّة خصوصًا مع الحلقة المفرغة التي دخلت فيها من باب رفع أجور القطاع العام وتمويلها من باب طبع العملة. أضف إلى ذلك التأخير في البدء بالإصلاحات والذي يزيد من الخسائر المباشرة وغير المباشرة على المواطن وعلى الاقتصاد ويجعل عملية التعافي أشبه بطريق طويل لا نهاية له.