كسحابة صيف تُطلّ حكومة تصريف الاعمال، بجلساتها العامّة بين الفينة والأخرى. فلا هي "تمطر" حلولاً تُشفي غليل المواطنين عامّة والموظفين خاصة، ولا فيئها يحمي الاقتصاد من لهيب الانهيار. كعادتها تتهرّب من الإصلاحات بالإجراءات الترقيعية؛ وأخطرها اعتزام فتح اعتمادات بعشرات آلاف مليارات الليرات في موازنة العام 2023 التي لم تبصر النور بعد.

تتصدّر مشاريع قوانين فتح الاعتمادات في موازنة 2023 البنود الأولى الثلاثة من جدول أعمال مجلس الوزراء المسرّب.

- البند الأول يقضي بفتح اعتماد بقيمة تناهز 21233 مليار ليرة لتغطية قيمة التعويض المؤقّت لجميع العاملين في القطاع العام والمتقاعدين الذين يستفيدون من معاش تقاعدي.

- الثاني، فتح اعتماد بقيمة 1545 مليار ليرة لتغطية الفرق في تعويض النّقل المؤقّت في الإدارات العامّة.

- الثالث، فتح اعتماد إضافي بقيمة 1000 مليار ليرة لصالح الأمن العام لإصدار جوازات سفر بيومترية لعام 2023.

مجموع هذه الاعتمادات يبلغ قرابة 23 ألف مليار ليرة، أي ما يفوق ضعف حجم النفقات في موازنة 2022، المقدّرة بـ 39 ألف مليار ليرة. هذا بالطبع عدا النفقات الأخرى المتفرّقة التي ستقرّ بسلف أو مشاريع مراسيم.

يتطلب حجز الاعتمادات من قبل وزارة المال صدور قانون من مجلس النواب يجيز لها الصرف على نفقة ما، وفي هذه الحالة على الرّواتب والتعويضات وبدل النقل. وعليه، "لا يحق صرف الزيادات الموعودة على الرواتب والأجور قبل إقرارها في البرلمان"، بحسب مدير المحاسبة السابق في وزارة المال أمين صالح. "كما يتطلّب فتح الاعتمادات تغطيتها بالواردات الكافية. وهذا ليس مؤمّناً، حتى مع رفع الدولار الجمركي إلى 86 ألف ليرة". وفي جميع الحالات يؤكّد صالح "عدم صلاحية حكومة تصريف الأعمال وضع مشاريع قوانين".

الأفخاخ في مشاريع القوانين لم تقتصر على النّاحية المادية، إنما بتضمينها بنوداً تتعلق بتعديل النظام الوظيفي بما لا يصبّ بصالح موظفي الإدارة العامّة بشكل أساسي، بحسب رئيسة رابطة موظفي الإدارة العامة نوال نصر. حيث رُبطت الزيادات التي ستعطى بالإنتاجية وإلزامية الحضور. وعلى سبيل الذِكر، تلغى الزيادة (بدل الانتاج) عن كامل الشهر في حال تغيّب الموظف ليوم واحد من الأربعة عشر يوماً المتوجّب فيها حضوره إلى العمل، من دون عذر رسمي، كما يلغى بدل النقل لثلاثة أيام. وبحسب نصر فإنّ المقرّرات الحكومية لم تأخذ بتوصيات اللجنة المشكّلة من الموظفين لإيصال مطالبهم واقتراحاتهم. وكان هناك توجه عند الوزراء بإعطاء بدل النقل من دون الزيادة على الرواتب.

الخطر على الوظيفة العامة

تستهدف المقرّرات الحكومية موظفي الإدارة العامّة بشكل أساسي بهدف تقويض العمل الفعّال والتخلّص من الرقابة، ووضع اليد على المرافق العامة الخاضعة للتقاسم والمحاصصة، من وجهة نظر نصر. حيث تحوّلت المرافق العامة تدريجياً إلى احتكارات، تذهب إلى جهات نافذة أو أشخاص متسلّطين بشكل مخالف ومتناقض مع أبسط مفاهيم الخصخصة، التي يجب أن تبنى على المنافسة والشفافية وتقديم أفضل الخدمات باقلّ الأسعار وتحسين الجودة.

تضارب الارقام

في الوقت الذي كان فيه ممثلو الموظفين في اللجنة المكلّفة دراسة الزيادات، يفاوضون على تعديل بدل النّقل بناءً على المسافات المقطوعة، وبشكل يؤمّن العدالة بين الموظّفين، خلافاً للمبلغ المقطوع الذي أقرّ بقيمة 450 ألف ليرة، خرجت المقرّرات مخيبة للآمال. إذ جرى احتساب أول 5 كلم بـ 150 ألف ليرة. وتم إعطاء 600 ألف ليرة كحدّ أقصى لمن يقطع مسافة تزيد عن 20 كلم. هذه الأرقام التي تعتبر ظالمة من وجهة نظر نصر، تعتبر بحسب مصادر مطلعة أكثر من عادلة. فكلفة النّقل المحدّدة بحسب الدولية للمعلومات تبلغ 15800 ليرة للكيلومتر الواحد، في حال كان سعر الصرف 112 ألف ليرة وسعر صفيحة البنزين مليونين وأربعة وأربعين ألفا. ومع انخفاض سعر الصرف وتراجع سعر البنزين إلى مليون 600 ألف ليرة، قدّرنا أنّ كلفة الكيلومتر أصبحت بحدود 12 ألف ليرة. ما يعني أنّ الأرقام المعطاة كبدل نقل لمختلف الفئات أكثر من عادلة، وهي تتجاوز الرقم المدفوع يومياً. هذا إذا افترضنا أنّ النقل يتم بالسيارة الخاصة.

اللاعدالة في الرواتب

المشكلة الأكبر بحسب نصر تبقى في اتّساع اللاعدالة في توزيع الرواتب. ففي حين لم تزداد رواتب الغالبية العظمى من موظّفي الإدارة العامة، الذين يتقاضون مليوني ليرة بالمتوسط، بأكثر من 43 دولاراً شهرياً بعد الزيادات المقرّة، وصلت الزيادات على رواتب موظّفي المؤسسات العامّة الكبرى، والقطاعات ذات الرواتب الكبيرة إلى 50 مليون ليرة أو ما يقارب 500 دولار.

الأثر الاقتصادي

مرة جديدة تُقرّ زيادات بآلاف المليارات لا ترضي موظفي القطاع العام وتحفّزهم على العمل والإنتاج، وتثقل في المقابل الاقتصاد بالمزيد من الأعباء. ففي ظل عدم كفاية الإيرادات نظراً لكون نصف الاقتصاد يعمل بالأسود ولا يصرّح حقيقة عن إيراداته ومداخيله، ستموّل هذه الزيادات من طباعة الليرات. وهي ستنعكس تضخّماً سواء دفعت بالليرة اللبنانية أو حوّلت إلى الدولار على منصّة صيرفة بحسب التعميم 161. ففي الحالة الأولى ستزيد الطّلب على الدولار بشكل مباشر عند الصرّافين وغير مباشر من خلال ارتفاع الطلب على السّلع والخدمات، التي يعود التجّار لطلب الدولار من أجل تمويل شرائها من الخارج.

أمّا من الناحية الثانية فهي ستدفَع مصرف لبنان إلى أوسع عملية شراء للدولار من السوق الموازية من أجل تمويل الزيادات. الأمر الذي سيتسبّب أيضاً بزيادة الطّلب على الدولار وبالتالي ارتفاع سعره مقابل الليرة. وبالتالي زيادة أسعار مختلف السلع والخدمات.

بعيداً عن الشعارات "الشعبوية"، لم يعد الوقت يسمح بالمزيد من الإجراءات "الترقيعية". فمجافاة الإصلاحات الهيكلية في القطاع العام وإعادة تعريف دوره والغاية منه وكلفته الحقيقية بالمقارنة مع انتاجيته... ستكون أسرع الطرق إلى استمرار الانهيار وتعمّقه يوماً بعد آخر.