لافتٌ التعميم 890 الصادر عن وزارة التربية والتعليم العالي بوضوحه وترتيبه وتوقيته. إلا أن هذا التعميم المتعلق بتحديد تاريخ بدء العام الدراسي، يترافق مع الكثير من الغموض والفوضى والعشوائية في القطاع التربوي. فالمعلّمون في القطاع الخاص الذين ناموا على حرير بعد إقرار البرلمان التعديلات على قانون المعلّمين، صدمتهم قيمةُ الرواتب المعروضة مقارنة بالأقساط المأخوذة، وتخلُّف الحكومة عن تطبيق الشق المتعلق بها. أما المعلّمون في المدارس الرسمية، فحدِّثْ ولا حرج عن تدنّي قيمة الرواتب والتمييز في الحوافز وغياب الضمانات الاجتماعية.

إذا كان "التعليم رسالة"، وليس مجرد وظيفة أو مهنة لكسب الرزق، فان "أقل الإيمان تزويد القيّمين عليها بأدوات الكتابة من أقلام ومحابر وأوراق ومغلفات"، يقول أحد الأساتذة المتعاقدين في التعليم الرسمي، متهكماً. " قيمة ما نتقاضاه لا تكفي للوصول إلى المدارس والإنفاق على أبسط الأمور الحياتية اليومية. فما بالنا بالفواتير المضاعفة مرّتين بل ثلاثاً على الكهرباء والاتصالات والمياه والنقل.. وخلافه".

تخفيض بدلات المتعاقدين

مع تسلُّم الحكومة الجديدة مهامّها، عمدت وزارة التربية إلى إلغاء الحوافز المعطاة بقيمة 375 دولار شهرياً للأساتذة المتعاقدين، علماً أن مطالبهم كانت واضحة وشبه متفق عليها مع الحكومة الماضية، لجهة تحديد أجر الساعة بـ 367 ألف ليرة، مضافاً إليها الحوافز الشهرية بالدولار، وبدل نقل عن أيام المداومة الفعلية. فأتت النتيجة إلغاء الحوافز الصيفية، ورفع أجر الساعة للأستاذ المتعاقد إلى 735 ألف ليرة، ما يعادل أربعة دولارات فقط، وإعطاء بدل نقل عن ثلاثة أيام اسبوعياً فقط.

الاجراءات الاخيرة لوزارة التربية تجاه المتعاقدين المترافقة مع عدم الاستماع إلى مطالبهم، اعتبروها رسالة سلبية على أبواب العام الدراسي. وما "يزيد الطين بلة" سماح الوزارة للأساتذة المثبّتين بإعطاء عدد من الساعات الإضافية من خارج جداولهم، مقابل 14 دولاراً للساعة الواحدة، علماً أنهم يتقاضون 13 راتباً ويستفيدون من كل الحوافز التي تتضمن ما لا يقل عن ثماني صفائح بنزين شهرياً، وبدل نقل عن كل يوم حضور بقيمة 450 ألف ليرة، وحوافز تتراوح بين 15 و27 مليون ليرة في حال الحضور 20 يوماً.

انهيار الأجور ولا تعويضات

بين العامين 2019 و2025، انهارت أجور المتعاقدين في التعليم الرسمي، من دون أي أفق جدّي لتصحيح هذا الخلل على غرار ما يحدث مع موظفي القطاع العام ولو بشكل خجول. فانخفضت قيمة الساعة من 20 ألف ليرة، أي ما يعادل 13.3 دولاراً في العام 2019 إلى 150 ألف ليرة في العام 2024، أي دولار واحد ونصف الدولار. وعلى الرغم من رفع أجر الساعة هذا العام إلى 735 ألف ليرة، فهي ما زالت تعادل أربعة دولارات فقط وتقل بنسبة 30 في المئة فقط، عما كانت عليه قبل الانهيار.

رب قائل إنّ معاملة الأساتذة المتعاقدين، تطابق التعريف الرسمي للتعاقد، وهو الاستعانة بعدد قليل من أصحاب الكفاءات، لتلبية حاجة ظرفية أو طارئة، ولمدة معينة، مع تجاوز بعض القواعد. وأهم هذه القواعد التي كان معمولاً بها سابقاً، هي إلزامية التخرّج من "دار المعلمين" للمرحلتين الابتدائية والمتوسطة، والتخرّج من كلية التربية في ما خصّ الأساتذة الثانويين. لكنّ المتعاقدين باتوا في السنوات الأخيرة، ولاسيما بعد الحرب، يشكلون نحو 60 في المئة في التعليم الرسمي الأكاديمي بمختلف مراحله ما قبل الجامعي. وترتفع هذه النسبة إلى 80 في المئة التعليم الأساسي، بحسب رئيسة رابطة الأساتذة في التعليم الأساسي، د. نسرين شاهين. ويقدّر بحسب المركز التربوي للبحوث والإنماء عدد الأساتذة المتعاقدين بنحو 20 ألفا في مختلف المراحل، 15 ألفاً منهم في التعليم الأساسي. وعليه فإن قضية المتعاقدين لم تعد حالة فردية، إنما جماعية تتطلب حلاً عادلاً حفاظاً على جودة التعليم في المدارس الرسمية.

أساتذة الخاص يشكون أيضاً قلة الرواتب

في المدارس الخاصة يبدو وضع المعلمين في العديد منها أفضل حالاً من أترابهم في المدارس الرسمية، ولاسيما مع إقرار البرلمان التعديلات على قانون المعلمين. فقد ألزم هذا القانون إدارات المدارس الاعتراف بما تعطيه للمعلمين والمعلمات بالدولار، وعدم اعتباره مساعدة اجتماعية، إنما من صلب الراتب. وربط إعطاء الذمة المالية للمدرسة، بتسديدها كامل المتوجبات لصالح صندوق المتقاعدين. ولم ينغص هذا القانون إلا تخفيض العديد من المدارس أجورَ معلّميها، ولا سيّما بالعملة الأجنبية. وهو ما يتناقض مع الاقساط الباهظة التي تتقاضاها والتي عادت في أكثريتها إلى ما كانت عليه قبل الانهيار. ولم تلتزم الدولة بعد بتغذية صندوق التعويضات بمنحة مالية بقيمة تفوق سبعة ملايين دولار في المرحلة الانتقالية لمساعدة نحو 5000 أستاذ متقاعد، ما زالت قيمة تعويضاتهم الشهرية تقل عن 50 دولاراً.

خطورة ما يجري في القطاع التربوي لا تنعكس مباشرة على حقوق الأساتذة، إنما بشكل غير مباشر على الاقتصاد. فالفاقد التعليمي، أي، الفجوة بين الحصص التي تعلمها التلميذ وبين ما اكتسبه وطبقّه من هذه الحصص"وصل بين العامين 2014 و2024 إلى 880 يوماً من أصل 1800 يوم. أي ما يقارب خسارة بنسبة 49 في المئة"، بحسب مركز الدراسات اللبنانية. فمن أجل تخفيف الضغط عن الاساتذة والتوفير من دفع بدلات مالية محقة لجأ المركز التربوي للبحوث والإنماء ووزارة التربية، إلى تخفيض أيام التدريس وتقليص المناهج. وهو ما يرتدّ تراجعاً بالناتج المحلي الإجمالي للفرد والمجتمع. وبالتالي تقليص حجم الموازنات، وتراجع الإنفاق على التعليم. وهكذا دواليك يدخل الاقتصاد في حلقة مفرغة لا خروج منها.