قليلة هي المؤسسات اللبنانية ذات "الصبغة" الرّسمية التي ظلّت تعمل بكفاءة عالية بعد الانهيار. "هيئة الأسواق المالية" – (CMA)، واحدة من هذه المؤسسات "الفتية"، التي سمح تجهيزها بأعلى التقنيات، ورفدها بأفضل الخبرات، وتفويضها بأوسع الصلاحيات، بمتابعة عملها. إلّا أنّ عدوى الخلافات السياسية والمحسوبيات الحزبية، بدأت بالتسلّل إلى بنيتها الإدارية مهدّدة بطمس ما بقي من أمل بجذب المستثمرين، واستعادة القطاع المالي لعافيته.

أنشأت هيئة الأسواق المالية في العام 2011 بموجب القانون 161. وهدفت إلى إعادة إطلاق دور لبنان كمركز مالي لاستقطاب وتوجيه رؤوس الأموال. وذلك لتأمين التمويل المتوسط والطويل المدى للدولة والشركات في القطاع الخاص. إضافة إلى تعزيز المقوّمات لدى لبنان. مما يمكّنه من لعب دور لطالما اضطلع به في فترة ما قبل الحرب، كقناة لتحويل المدخّرات الوطنية والإقليمية إلى الأسواق المالية في أوروبا الغربية وأميركا. وقد أعطيت للغاية الشخصية المعنوية والاستقلالين الإداري والمالي.

استحكام الخلافات

هذا الدور المحوري لهيئة الأسواق المالية بدأ يتلاشى. وقد ترجم مؤخراً من خلال تأخير الهيئة إعطاء رخص لشركات مالية قيد التأسيس، على الرغم من إتمام ملفّاتها وموافقة دوائر الهيئة عليها. و"السبب لا يعود إلى نقص في الملفّات أو لعدم مطابقتها الشروط، أو مخالفتها لأحكام القوانين المالية اللبنانية، إنّما بسبب ما يحكى عن استحكام الخلافات بين أعضاء مجلس إدارة الهيئة الذي يضمّ تشكيلة من ممثلي الأحزاب والطوائف"، يقول مصدر داخلي رفض الإفصاح عن اسمه، "هناك شركات يتخطّى عددها أصابع اليد الواحدة، تنتظر رخصها منذ شهور طويلة، وهي تنقسم على خمس فئات:

-الاستشارات، Advising.

- الترتيب، Arranging.

- التعامل في البورصة، Dealing.

- الإدارة، Managing.

- الحفظ، Custodian.


الانعكاسات

مخاطر انعكاس الخلافات السياسية والمحسوبيات على قرارات هيئة الأسواق المالية تنقسم إلى شقّين:

الأول يتعلّق بانتظام الوضع المالي، ومراقبة عمل الشركات المرخّصة، وحماية زبائنها من أيّ غش أو مخالفات. وبحسب المصدر فإنّ "هناك حاجة ماسّة وتحديداً في مثل هذه المرحلة التي يمرّ بها لبنان إلى وجود شركات محترفة ومرخّصة وقانونية وتحت رقابة "هيئة الأسواق المالية". ولاسيما في ظلّ تنامي عدد الشركات المالية التي تمارس عملها بعيداً عن أيّ رقابة. وهي تعرض زبائنها إلى مخاطر السوق سواء كان عملها يتعلّق بالاستشارات أو التداول بالأسهم والسندات. كما أنّ التوسّع بإعطاء الرّخص للشّركات المالية يعتبر بداية الطريق نحو إعادة هيكلة القطاع المالي بشكل كامل. خاصّةً أنّ أهمّ وظيفة لتلك الشركات هي العمل على دمج الشركات (ومن بينها المصارف) وإعادة هيكلتها وإدخال مستثمرين جدد.

الثّاني، إنّ عدم إعطاء التراخيص يدفع تلك الشركات إلى واحد من حلّين:

ـ العمل في السوق الموازية، ومن دون رقابة وتنظيم. ما يشكّل خروجاً عن القوانين، وخطراً على المستثمرين والأسواق المالية.

ـ أو إلى طلب تراخيص من دول مجاورة كقبرص أو الإمارات أو حتى بريطانيا. حيث يتم الترخيص بشروط أسهل وبمجرد اكتمال ملفّ طالب الترخيص. ولا تدخل السياسة والمحسوبيات. أكثر من ذلك يمكن للشركات الحصول على الرّخصة من بعض الجنّات الضرائبية، كالجزر البريطانية حيث يتمّ شراء الترخيص عبر الانترنت.

وفي الحالتين تخسر الأسواق المالية اللبنانية المداخيل بالدولار "الفريش"، والضرائب المفروضة على أرباح هذه الشركات التي تتخطّى في بعض الأحيان العشرة في المئة من أرباحها، التي قد تصل إلى ملايين الدولارات "الفريش". هذا بالإضافة إلى عدم خلق مجالات عمل لموظفين لبنانيين. إذ تتطلب أقلّ شركة بين 10 و15 موظفاً من أصحاب الكفاءات. بحيث يضطر صاحب الشركة المرخّصة خارج لبنان إلى الاستعانة بأعضاء مجلس إدارة وموظّفين أجانب تفرضهم قوانين تلك الدول. هذا ناهيك عن أنّ المستثمرين من أصحاب التراخيص في الخارج سيعودون إلى العمل في الأسواق المالية اللبنانية، وتقديم الخدمات للزبائن اللبنانيين، من دون أن تتمكّن الدوائر المختصّة في هيئة الأسواق المالية من ضبطهم، بسبب التكنولوجيا المتطورة واستحالة كشف طرق وأمكنة تنفيذ تلك العمليات وطرق تحويل الأموال. فتُحرم الخزينة من عائدات الضرائب، والموظفين اللبنانيين من فرص العمل. إضافةً إلى عدم إنعاش الأسواق المالية اللبنانية من خلال حرمانها من الدولار "الفريش".

ازمة الرواتب

من الأسباب المستجدّة التي ستؤدّي إلى عدم قيام هيئة الأسواق الماليّة بدورها، هو التوقّف عن تحويل رواتب موظفيها إلى الدولار على سعر تفضيلي. وبحسب المصدر فإنّ "إعطاء الرواتب كاملة على سعر صرف تفضيلي كان استثناءً ولمدّة محدّدة. وموظفو الهيئة يعاملون كما يعامل موظفي المصرف المركزي". وبرأيه "قد يكون هدف الحاكم من وراء هذا التدبير تحفيز الهيئة على أن تموّل نفسها بنفسها، من خلال الرّسوم التي تفرضها على الشّركات. ولكن المشكلة أنّ الرسوم بالليرة، أصبحت متدنية جداً. وقد لا تكفي كلّ الرسوم على الشركات الموجودة في لبنان لتأمين راتب موظف واحد".

في الوقت الذي تتزايد فيه الحاجة إلى هيئة أسواق مالية قادرة وفعّالة في ظلّ الفوضى التي يمرّ بها لبنان، نرى زيادة منسوب التّعطيل لأهداف مادية وسياسية. ويسجّل المراقبون "تأخّر الهيئة في مواكبة التطور، وعدم وضع نظام ترخيص وتداول خاص بالعملات المشفّرة كـ "البيتكوين".. وغيرها من العملات المعمّاة التي تنتشر كالفطريات في مختلف المناطق". فالحاجة اليوم ماسّة إلى تطوير القوانين وتعديلها لضبط السّوق وحماية المستثمرين من عشرات الشركات غير المرخّصة، التي تؤمن الولوج إلى منصّات تداول لتلك العملات من أمثال "Binance" و "kucoin".. وغيرها، إضافةً لضبط ومراقبة بيع وشراء عملة USDT من دون أي رقابة، مع ما تحمله العمليات من مخاطر تبييض أموال.


الهيكلية التنظيمية