يترأس الخبز أو "العيش" كما يسمى في مصر، والكثير من الأقطار العربية، لائحة المواد الاستهلاكية الغذائية. وعادة ما يرتبط بعلاقة طردية مع الفقر، بحيث تزيد حصته من النفقات الاستهلاكية للعائلات كلما ارتفع مستوى فقرها، وتنخفض مع تحسن وضعها المادي. وقد خصّت مختلف الأنظمة العربية رغيف الخبز بمعاملة خاصة، وميزته عن باقي السلع بالدعم المباشر. وتتهيب الأنظمة معظم الاوقات رفع الدعم أو عقلنته، رغم أن المستفيدين غالباً ما يكونوا من التجار والمهربين وأصحاب المصالح الكبيرة.

على هذا المنوال سار لبنان تاريخياً. والدعم للخبز الذي كان مدمجاً بسعر الصرف الوهمي قبل الانهيار، استمر بعده بشكلين: الاول، دعم كامل لمختلف العناصر التي تشكل أساس صناعة الرغيف مثل القمح والمازوت والسكر والخميرة.

الثاني، دعم جزئي من خلال تمويل شراء القمح، الذي يشكل أكثر من 60 في المئة من الكلفة، على سعر الصرف الرسمي ودفع الفرق من مصدرين: حقوق السحب الخاصة التي حصل عليها لبنان من صندوق النقد الدولي. وقرض البنك الدولي بقيمة 150 مليون دولار.

ارتفاع سعر الرغيف

الدعم المفرط الذي لم يعد محصوراً في لبنان إلا بالخبز، لم يقِ الرغيف شر ارتفاع الأسعار. فارتفع سعر ربطة الخبز من 1500 ليرة في العام 2019 إلى حدود 50 ألف ليرة راهناً، وانخفض وزنها من 1050 غراماً إلى 800 غراماً، وأحياناً أقل. ما يعني أن سعر ربطة الخبز زاد 43 ضعفاً في غضون 4 سنوات فقط. في المقابل ارتفعت مداخيل القطاع العام 7 أضعاف، وموظفي القطاع الخاص 13.3 ضعفاً. وعلى الرغم من ذلك تتزايد المطالبات برفع سعر ربطة الخبز من قبل أصحاب الافران على أساس أنه "مش موفية معنا". وحجتهم أن سعر الربطة كان قبل الازمة يعادل دولاراً واحداً، فيما هو اليوم بحسب سعر الصرف في السوق الموازية يعادل نصف دولار.

بعيداً عن السياق العام لصناعة الرغيف المليء بالمشاكل والعقبات، فان "أي حديث عن تغيير في سعر ربطة الخبز أو دوّلرتها، يجب أن يكون مبنياً على رأي لجنة تقييم حقيقية تضم كل من له علاقة بصناعة الخبز، ابتداءً من العمال وصولاً إلى المهندسين مصنّعي الأفران"، يقول نقيب عمال الأفران في بيروت وجبل لبنان شحادة المصري. ومن دون تشكيل هذه اللجنة التي تعطي التقديرات الحقيقة لكلفة الطحين الحقيقية وكمية استهلاك المازوت، وأكلاف الصيانة، والحجم الفعلي لقوة العمل.. واحترام التوصيات التي تصدر عنها، فان كل ما يحكى عن كلفة صناعة الرغيف مشكوك به". اللجنة المُطالب بها منذ عام ونصف العام، لدراسة الكلفة الحقيقية لصناعة ربطة الخبز لم تتشكل بعد. "وذلك على الرغم من الوعود الرسمية، واستحصال النقابة على حكم من مجلس شورى الدولة للاطلاع على المستندات التي تظهر الأرقام التي تستند عليها الوزارة لرفع سعر ربطة الخبز"، يقول المصري.

السعر العادل

مع بداية ارتفاع سعر صرف الدولار مطلع العام 2020، ووصوله إلى 2500 ليرة، كان سعر ربطة الخبز لا يزال 1500 ليرة. فاعترض أصحاب الافران على التسعيرة، وتم تشكيل لجنة لوضع السعر العادل. وبعد وصول سعر الصرف إلى 8000 ليرة، رفعت وزارة الاقتصاد سعر ربطة الخبز إلى 2000 ليرة مع المحافظة على وزنها 1000 غرام. وقد اعتبر أصحاب الافران أن التسعيرة التي كانت تعادل وقتها ربع دولار منصفة.

تضخيم الأكلاف على حساب العمال والرغيف

يضع أصحاب الأفران الكلفة على أساس تصنيع الفرن 25 شوال طحين يومياً. وعليه فان مضاعفة كمية الطحين المصنعة، تعني نظرياً، مضاعفة كمية المازوت المستهلكة، وأعداد العمال، ومضاعفة إيجار الفرن، والصيانة، وسكن العمال، وعدد إجازات العمل والتنظيفات والكهرباء، وكل العناصر المتبقية. "بمعنى آخر يتضاعف كل شيء على حساب العمال والرغيف"، يقول المصري. "وما يزيد الطين بلة"، أن كل نقص في وزن ربطة الخبز يزيد في عدد ربطات الخبز بدون اي زيادة للعمال، لان اجرهم يتحدد بناد على عدد شوالات الطحين. فتتضاعف ارباح الافران الكبرى مرتين ما بين الـ 25 شوال و50 شوال طحين، ولا تزداد أجور العمال". وغني عن القول إن طريقة الاحتساب هذه، تعوزوها من وجهة نظر المصري "الدقة والمنطق. وغالباً ما تأتي هذه الزيادات على حساب نفس عدد العمال الذين يعملون أكثر من دون تعويضات". وبرأيه فإن "90 في المئة من العمال في أفران بيروت وجبل لبنان المسجلين في الضمان الاجتماعي هم من اللبنانيين، فيما لا يتجاوز مجموع اجازات العمل المعطاة للسوريين عن الأعوام 2017 و2018 و2019 الـ 300 إجازة عمل. وهناك آلاف العمال بلا إجازات عمل وإقامات وبطاقات صحية ومن دون تطبيق قانون العمل.

العاملون في قطع صناعة الخبز يخلصون إلى نتيجة مفادها أن "لا أحد يريد تشكيل لجنة حقيقية لدراسة كلفة الرغيف". وأكثر ما يهم أصحاب المصالح إبقاء آلية توزيع الطحين المدعون على الأفران مبهمة وبعيدة عن الرقابة الفعلية. ذلك أن قسماً من هذا الطحين المدعوم يُباع في السوق السوداء، أو يستعمل لغير صناعة الخبز العربي من الحجم الكبير. وهي منتجات تباع بحسب سعر الصرف في السوق الموازية، فيحققون منها أرباحاً طائلة. وبالأرقام هناك حوالي 200 مؤسسة تستفيد من حصص توزيع الطحين المدعوم، خمسة منها فقط تستحوذ على 40 إلى 45 في المئة من مجمل إنتاج صناعة الخبز. ليبقى السؤال المحير: ماذا بعد انتهاء مفاعيل قرض البنك الدولي؟ هل تستمر الإستدانة للاستهلاك بأكلاف باهظة؟ أم تصبح دوّلرة الرغيف واقعاً لا مفر منه؟ سؤال برسم القادم من الايام.