من مفخرة للبلدان بوجود ودائع تفوق الناتج المحلّي بأكثر من ثلاثة أضعاف، انتقل الاقتصاد اللبناني في غضون أربعة أعوام إلى تسجيل رقم قياسي جديد بسرعة ذوبان الودائع. وعلى غرار التأثيرات العنيفة التي يحدثها تحوّل جوهر الأشياء من الصلب إلى السائل أو حتّى المتبخرة، ترك التراجع الهائل في حجم الودائع آثاراً بالغة السلبية على معيشة المواطنين وصمود المؤسسات وقدرة الاقتصاد على التعافي.

أظهرت الميزانية العمومية الموحّدة للبنوك التجارية اللبنانية، انخفاض إجمالي الأصول سنوياً بنسبة 33.8 في المئة، لتبلغ 115 مليار دولار بحلول شباط من العام الحالي. 73.86 في المئة من إجمالي أصول المصارف هي عبارة عن ودائع في المصرف المركزي. وقد انخفضت على صعيد سنوي بنسبة 24.78 في المئة لتستقرّ عند 84.94 مليار دولار. كما شكّلت الودائع بالعملة الاجنبية لدى البنك المركزي 99.44 في المئة من إجمالي الاحتياطيات، وانخفضت بنسبة 23.03 في المئة على أساس سنوي، لتصل إلى 84.46 مليار دولار في شباط 2023. علاوة على ذلك، فقد تراجعت قيمة الودائع بالليرة اللبنانية بنسبة 84.98 في المئة على أساس سنوي لتصل إلى 476.88 مليون دولار في نفس الفترة.

تراجع الودائع

بتبسيط للأمور يمكن القول إنّ الودائع بالليرة والدولار للقطاعين العام والخاص انخفضت من 178.6 مليار دولار في العام 2018، إلى حدود 85.5 مليار دولار في شباط 2023. أي أنّها تراجعت بقيمة 93.1 مليار دولار في غضون خمس سنوات. تقرير الميزانية العمومية عزا هذا الانخفاض الدراماتيكي، وتحديداً في ما يتعلّق بالليرة اللبنانية، إلى عدّة عناصر منها:

- تخفيض سعر الصّرف في شباط 2023 من 1500 ليرة إلى 15 ألف ليرة.

- انخفاض حيازة سندات "اليوروبوندز" بنسبة 35.66 في المئة منذ شباط 2022 لتصل إلى 2.83 مليار دولار في نهاية شباط 2023.

الأسباب

ومن الأسباب الأساسية لتراجع الودائع يظهر تسديد الديون، ولاسيما بالدّولار على أساس سعر الصّرف الرسمي أو على سعر 8000 ليرة، في الوقت الذي كان فيه سعر الصرف الحقيقي يتجاوز بأضعاف مضاعفة هذا الرقم في السوق الموازية. وقد "أدّت هذه الآلية الخاطئة والمفتعَلة من قبل الدّولة إلى سداد ما يقارب 28 مليار دولار من القروض منذ بدء الأزمة وحتى اليوم"، بحسب بيان سابق بتاريخ 8 آذار 2023 لأمين عام جمعية المصارف د. فادي خلف. وعليه أصبح "يصحّ القول إنّ أغنياء اليوم هم دائنو الأمس"، برأيه، ذلك أنّ "28 مليار دولار ربحها الدائنون على حساب المودعين بإهمال من الدولة، حتى لا نقول عن سابق تصوّر وتصميم."

المطلوب في مكان آخر

هذه المعطيات على أهميتها "لا تفيد القارئ أو المتابع المحترف، والشيء الذي يرغب بمعرفته حقيقة"، يقول خبير المخاطر المصرفية محمد فحيلي. "فإذا كان الهدف من التقارير التي تصدرها المصارف التجارية أو مصرف لبنان هو إظهار صحّة هذه المؤسسات، فإنّ الأرقام لا تدلّ على عافيتها. وإذا كان الهدف عرضاً نظرياً لما تبقّى من ودائع، فما نفع هذه الأموال إذا كانت أعجز من أن تموّل بالحدّ الادنى فاتورة الاستهلاك. وإذا كانت الغاية الاعتراف بوجود الودائع، فلا معنى له في ظل عجز المصارف عن تأمين السيولة لتمويل الحدّ الأدنى من حاجات المودعين". وعليه فإنّ ما يهمّ المتابع للشأنين المالي والنقدي برأي فحيلي هو "معرفة كم انخفض عدد الحسابات من سنة لسنة. وكم انخفض عدد الخدمات التي تقدّمها المصارف. وكم يبلغ عدد المصارف المراسلة التي تتعامل معها المصارف اللبنانية. وكم يبلغ عدد المصارف المكشوفة حساباتها لدى المصارف المراسلة، وتحوّلت أرصدتها إلى سلبية. هذه هي المؤشّرات المهمّة لنستنتج مدى صحّة القطاع المصرفي. ومن هي المصارف القادرة على الاستمرار في خدمة الاقتصاد، بغضّ النّظر عن أرقام الودائع الموجودة على شاشات الحواسيب، التي يجب وضع اليد عليها من قبل مصرف لبنان أو السلطات صاحبة الاختصاص".

الاستبعاد المالي

أمام هذا الواقع، "يتوضّح يوما بعد آخر تقصّد المنظومة ممارسة ما يعرف بـ :"الاستبعاد المالي"، في الوقت الذي تتجه فيه كل الدول إلى تبنّي مفهوم "الشمول المالي"، من وجهة نظر فحيلي. "فعندما ترضى السلطة النقدية، وتشجّع بالممارسة على إقفال حسابات، ولا نتحدث هنا عن تفريغ الحسابات من الأرصدة والإجبار على إقفالها، إنما عن إقفال الحسابات الموطّنة للشركات والمؤسسات بعد إرهاقها بالأكلاف، نكون نمارس الاستبعاد المالي لغاية تسهيل توزيع الخسائر". لكن إذا أفرغنا المصارف من الحسابات والمودعين، ماذا يبقى من القطاع المصرفي لينتظم. وهذه عينة عن كيفية مقاربة الحلول في البلد.

التعميم 154

ما ينقص التقارير المتعلّقة بوضع القطاع المصرفي يبرز أيضاً بحسب فحيلي "عدم توضيح السّلطة النقدية لما حلّ بالتعميم 154. وهو التعميم الذي طلب في أحد مواده إعادة 30 في المئة من الأموال المحوّلة من تموز 2017 والتي تفوق 500 ألف دولار، تحت طائلة الملاحقة للمصارف غير المتقيّدة وملاحقتها تحت أحكام القانون 44/2015 المتعلّق بتبييض الأموال". وهو القرار الذي كان يؤمل أن يدخل ما لا يقلّ عن 3 مليارات دولار توضع في صندوق خاص لدعم التعافي المالي.

مليارات الدولارات تبخّرت حرفياً من النظام المالي اللبناني، بعضها تحوّل إلى "بلوكات" إسمنت خسرت أكثر من نصف قيمتها. وبعضها الآخر إلى أسهم منتفخة بقيم غير حقيقية. وجزء غير قليل منها سحب بالليرة اللبنانية وفقا للتعميمين 151 و158 بـ "هيركات" وصل أغلب الأوقات بالنسبة للتعميم الأول، إلى 85 في المئة. وعلى الرغم من تباطؤ وتيرة تسديد الديون من الودائع، فإنّ جزءاً غير قليل من المودعين فقد الأمل بإمكانية استرجاعها، وعاد ليسيّلها بالليرة على أسعار صرف غير حقيقية.