شهد متحف بيروت للفن الحديث والمعاصر "بِما" محطة ثقافية بارزة تمثّلت في الاحتفال بالذكرى العاشرة لبرنامج "مسارات إبداعية" الريادي، بالتزامن مع إطلاق مبادرة "الفنون الجوّالة" التي تهدف إلى إخراج الفن من إطار المتاحف التقليديّة ونقله إلى الفضاء العام. هذا الحدث المزدوج أعاد التأكيد على الدور الحيوي للفنّ بوصفه لغةً تعليمية وأداةً للحوار ومنصةً لبناء السلام المجتمعي في بلد يواجه تحديات اجتماعية واقتصادية وثقافية عميقة.

افتُتِح النشاط بحضور السيدة الأولى نعمت عون، ووزير الثقافة غسان سلامة، وحشد من الشخصيات الدبلوماسية والثقافية والتربوية. وقد شكّل هذا الحضور الرسمي رسالة دعم واضحة للقطاع الثقافي بما يحمله من دور أساسي في إعادة بناء الهوية اللبنانية وتعزيز الانتماء.

السيدة الأولى: "الإبداع هو الرسالة الأولى لبناء السلام"

بعد جولة في المعرض، عبّرت السيدة الأولى نعمت عون عن تقديرها للمبادرة، مؤكدةً أنّ دعم الإبداع في المدارس هو أساس بناء جيل يؤمن بقيم التقبّل والانفتاح. وقالت:

"أشكر حبّكم للإبداع، لأنه الرسالة الأولى لبناء السلام الذي يجمع الجيل الجديد ويجعله يحب الآخر ويحترمه ويتقبّله”

وأضافت أنّ التلاميذ، رغم التحديات القاسية، ما زالوا يحتفظون بحسّ الإبداع والأمل، داعيةً إيّاهم إلى الثقة بأنفسهم وصنع مستقبل يليق بطموحاتهم.

وخلال جولتها في المعرض، طرح موقع الصفا نيوز على السيدة الأولى سؤالاً يعكس هواجس كثير من اللبنانيين، في ظلّ الحضور الثقافي المتزايد لها ولرئيس الجمهورية في عدد من الفعاليات الفنية. تساءل الموقع عمّا إذا كان هذا الاهتمام المتنامي بالمشهد الثقافي يشكّل دلالة على استقرار الوضع الأمني في لبنان، وأنّ لا خوف من حرب رغم الهموم والهواجس التي تثقل كاهل المواطنين.

فأجابت: "الرسالة بالتأكيد هي رسالة أمل ومحبة. وبعد زيارة البابا، تجسّد هذا الأمل بشكل أوضح، ولا سيما بوجود شبابٍ وشابات يؤمنون بهذا الوطن ويعملون من أجله. هذا يعزّز قناعتنا بأنّ في لبنان طاقات مهمة يجب دعمها ومنحها الثقة".

وأضافت السيدة الأولى "الحرب ليست قدراً محتوماً؛ نحن من نصنع الحرب، ونحن أيضاً من نصنع السلام. وإذا اتفقنا جميعاً على أن نكرّس جهودنا لبناء السلام بأيدينا، فلن يؤثر فينا ما يُقال أو ما يُشاع. الإبداع والفن هما أول رسالتين تؤكدان وجود الأمل، فحين تنطلق الطاقات وتُشجَّع المواهب، فهذا يعني أننا نسير في الاتجاه الصحيح، وأنّ الأمل ما زال حاضراً."

وختمت "لقد واجهنا التحديات بشجاعة، ونسعى إلى تشجيع الجيل الجديد، لأنه الحاضر والمستقبل، وهو القادر على بناء ما هو آتٍ. لذلك نقول لهم: آمنوا بقدراتكم، واثقوا بأنفسكم، وتمسّكوا بأحلامكم، فالوطن لكم، وأنتم من سيحقّق أهدافه".

التربية والثقافة: تعاون استراتيجي ينقل الفن إلى الصفوف

المدير العام لوزارة التربية فادي يرق أكّد خلال مشاركته أنّ الشراكة بين الوزارة والمتحف الجديد تمثل نموذجاً وطنياً ناجحاً للتعاون بين القطاع العام والمؤسسات الثقافية، مشيراً إلى أنّ الفن أصبح "فضاءً تربوياً يعمّق التجربة التعليمية ويطوّر مهارات التفكير والتحليل لدى التلاميذ".

وأشار يرق إلى أنّ الوزارة مستمرة في دعم البرامج الثقافية التي تُغني المناهج وتربط الطلاب بإرثهم الفني، معتبراً أنّ "مسارات إبداعية" حوّل الفن الوطني من مواد مخزنة إلى أدوات تعليمية نابضة بالحياة في مدارس لبنان الرسمية.

أما إدارة المتحف، فشدّدت على أنّ إطلاق "الفنون الجوّالة" يعزّز فلسفة "بِما" في جعل الفن متاحًا للجميع، ووسيلةً لدمج المجتمع في حوار إبداعي يعكس الذاكرة الجماعية والتحول الاجتماعي.

"مسارات إبداعية": عقد من تحويل الفن إلى مساحة تعليمية حيّة

وُلِد برنامج "مسارات إبداعية" عام 2017 كشراكة بين وزارة التربية ومتحف "بِما"، بهدف إدماج الفن في المناهج الرسمية من خلال أعمال فنية من مجموعة وزارة الثقافة، بعد ترميمها وإعادة عرضها إثر تعرّضها للتلف.

خلال عشر سنوات، شارك آلاف الطلاب في الورش التعبيرية، فحوّلوا التجربة من تلقّي المعرفة إلى إنتاجها، مستكشفين هوياتهم، وأفكارهم، وقصصهم الشخصية. وقد جاء معرض «زيك زاك زوم» هذا العام ليعكس مخيّلاتهم الملوّنة المستوحاة من أعمال الفنانة اللبنانية هيلين الخال.

تالين بولاديان، المديرة المشاركة للمتحف، أكدت أن "المتحف يمكن أن يكون فصلاً دراسياً بلا جدران"، فيما شددت المؤسِسة المشارِكة ساندرا أبو ناضر على أهمية ربط التراث الفني بالتعليم العام لإعادة بناء علاقة التلاميذ بتاريخهم الفني والوطني.

"الفنون الجوّالة": نقل الإبداع إلى الشارع وإلى حياة الناس

شكّل معرض "مناظر متحركة" نقطة انطلاق برنامج "الفنون الجوّالة" الذي ينقل الفن من المتحف إلى الأماكن التي يعيش فيها الناس يومياً.

وقد عُرض للمرة الأولى في بيت الدين قبل أن ينتقل إلى بيروت، ليكمل جولته لاحقاً في مناطق مختلفة، ضمن رؤية لامركزية تضمن وصول الفن إلى كل اللبنانيين.

المعرض، بإشراف كليمانس كوتار وتحويل فني كامل عون، يعيد التفكير في مفهوم المنظر الطبيعي كمرآة للتحولات البيئية والاجتماعية، جامعاً بين الفن الحديث والبحث العلمي.

الإشكالية: هل يكفي الفن لإنقاذ الهوية الثقافية في بلد مأزوم؟

رغم النجاح اللافت لهذه المبادرات، يطرح الواقع اللبناني سؤالاً جوهرياً:

هل تستطيع المشاريع الثقافية والتربوية وحدها مواجهة الانهيار الاقتصادي والاجتماعي؟

فالمدارس الرسمية تعاني ضغطاً كبيراً، والموازنات الثقافية محدودة، والهجرة تستنزف المواهب الشابة. هنا يظهر التحدّي الحقيقي: تحويل المبادرات اللامركزية إلى سياسات وطنية مستدامة.

الفن ضرورة نفسية وتربوية وليست ترفًا

يقول الباحث في سياسات الثقافة والتنمية د. رامي نجم إن "الفن في المجتمعات التي تمر بأزمات ليس رفاهية، بل علاج جماعي". ويضيف:

"هذه البرامج تمنح التلاميذ مساحة للتعبير عن قلقهم، وتساعدهم على بناء مناعة نفسية، إضافةً إلى تعزيز مهارات التفكير النقدي… لكنّ استدامتها تحتاج إلى تمويل ثابت وإدماج رسمي في السياسات التربوية."

ويرى نجم أنّ مبادرة "الفنون الجوّالة" خطوة مهمة لكسر مركزية بيروت الثقافية، شرط أن تشمل لاحقًا المناطق الأقل حظاً حيث الحاجة إلى الفنون أكبر.

الفنّ جسر يبني المستقبل

يكشف هذا الحدث الثقافي أنّ لبنان، رغم جروحه العميقة، ما زال قادراً على إنتاج الأمل عبر الإبداع. فالفنّ هنا ليس معرضًا فقط، بل مساحة مقاومة ناعمة تعيد للجيل الناشئ صوته وللهوية اللبنانية معناها.

إن "مسارات إبداعية" و"الفنون الجوّالة" نموذج لِما يمكن أن تفعله الثقافة حين تُمنح الفرصة:

أن تبني السلام، وتفتح الحوار، وتعيد الثقة بالمستقبل.