إنهيار مالي كارثي! هكذا يُمكن وصف أزمة لبنان التي يعيشها منذ العام 2019. هذه الأزمة هي عبارة عن تلاقٍ بين إنهيار مالي ناتج من عقود من الحوكمة المالية السيئة معطوفة على خلل اقتصادي هيكلي عميق، وبين عدم استقرار جيوسياسي مزمن شكّل لبنان أحد أهم ترجماته الجغرافية. وهو ما جعل التخلّف عن سداد الديون في آذار من العام 2020، أمراً حتميّاً وليس نتاج الصدفة.
الأسس النظرية الاقتصادية للانهيار
يُشير التحليل إلى أن التطورات الاقتصادية والمالية في لبنان، على الرغم من فوضويتها، اتّبّعت مساراً منطقياً نصّت عليه العلوم الاقتصادية. ويُمكن حصر هذه التطورات بثلاثة أمراض اقتصادية مترابطة عضوياً. وبالتالي فإن فهمها يوفر أساساً متيناً لاستخلاص النتائج حول طبيعة الأزمة اللبنانية المتشعبة، والتي لم تكن أزمة مالية بحتة بل أزمة هيكلية عميقة:
أولاً – نموذج الدولة الريعية المالية: يُعتبر اعتماد هذا النموذج الخطأ الرئيسي في لبنان إذ إن النخبة السياسية المؤسسة، صمّمته لجذب رؤوس الأموال. وبحسب "نظرية الدولة الريعية"، تُعتبر الحالة اللبنانية حالة "ريعية مالية" بامتياز، إذ إن الريع نابع من آليات مالية وتدفقات نقدية خارجية، وليس من الموارد الطبيعية كالنفط مثلاً.
وبفحصٍ مُعمّق للتدفقات المالية في لبنان، نرى أنها تأتي من ثلاثة مصادر أساسية هي: تحويلات المغتربين، والمساعدات والودائع الخارجية، و"الهندسات المالية" التي نفّذها مصرف لبنان لجذب الودائع بأسعار فائدة مرتفعة. وكنتيجة لهذا الأمر، تمّ فصل إيرادات الدولة عن الضرائب المحصَّلة من النشاط الاقتصادي المحلي وبالتالي أصبحت الدولة تعتمد على هذه التدفقات بدل الاعتماد على الضرائب في عملية "خداع" كبيرة وتحايل على استدامة المالية العامة. وقد أتاح ذلك للنخبة السلطوية استخدام موارد الدولة لخدمة المحسوبيات والفساد بدلاً من الاستثمار في التنمية، ما أدى في نهاية المطاف إلى دوامة الديون التي لا يمكن السيطرة عليها. هذه التدفقات سبّبت حالة حادة من المرض الهولندي، ما أدّى إلى مزيج من الاعتماد على التدفقات الخارجية وتآكل القطاع الإنتاجي واستطراداً ديناميكية غير مُستدامة للدين العام.
ثانياً – نظرية المرض الهولندي: أدّت التدفقات المالية الهائلة الناتجة من النموذج الريعي (عشرات مليارات الدولارات سنوياً) إلى خلق ظاهرة شبيهة بالـ "طفرة نفطية" أدت بشكل مباشر إلى رفع قيمة سعر الصرف الحقيقي لليرة اللبنانية وهو ما جعل أسعار السلع المستوردة مُتدنيّة والمُصدّرة باهظة وخلق عجزاً تجارياً مُزمناً بمعدّل 15 مليار دولار أميركي سنوياً. وكنتيجة حتمية تمّ ضرب القطاعين الصناعي والزراعي بحكم عدم القدرة على المنافسة وفي المقابل ازدهر قطاع الخدمات خالقاً بذلك اقتصاداً مُعتمداً بشكل أساسي على الاستيراد والاستهلاك المفرطين من دون أن يكون هناك قدرة إنتاجية لتمويل هذا الإستهلاك! وما التوقّف الفجائي للتدفقات المالية في العام 2019 إلا الشرارة التي أطلقت هذا الانهيار.
ثالثاً – نظرية ديناميكيات الدين غير المستدامة (r > g) وجوهرُها أن نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي تنمو بشكل كبير بفعل أن متوسط سعر الفائدة الحقيقي على الدين (r) أعلى باستمرار من معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي (g)، وبالتالي فإن السيطرة على الدين العام أصبحت شبه مُستحيلة وبالتالي التعثّر كانت مسألة وقت لا غير. على صعيد الآلية، يُمكن القول إن المرض الهولندي أدّى إلى كبح النمو الحقيقي، بينما فرضت التدفقات المالية الخارجية الحفاظ على أسعار فائدة مرتفعة لجذبها. والنتيجة المحاسبية كانت كارثية إذ ارتفع متوسط سعر الفائدة الحقيقي على الدين مُقارنة بمعدل نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي مع الاقتراض المتزايد (تضاعف الدين العام ما بين العامين 2006 و2016) وتراجع النمو بعد العام 2011.
العامل الجيوسياسي المضاعف للأزمة
لعبت التوترات الجيوسياسية دوراً مُضاعفاً للأزمة اللبنانية وذلك منذ منتصف التسعينيات. وزاد مدى هذه التداعيات مع حرب تموز 2006 بخاصة على الحدود الجنوبية وحتى في الداخل اللبناني خلال الأعوام التي تلت بدء الأزمة السورية في العام 2011. وفي كل مرّة كانت هناك علامات استقرار نسبي، كانت الصدمات الجيوسياسية تضرب الاقتصاد وتُعيده إلى نقطة الصفر:
أولاً – الخسائر المادية المباشرة الناتجة عن الصراع الأخير والذي أدّى إلى خسائر مادية هائلة في البنية التحتية والمنازل في الجنوب. وبحسب تقديرات البنك الدولي، بلغت الخسائر الاقتصادية المباشرة الناجمة عن هذا الصراع حوالي 14 مليار دولار، بينما تتجاوز احتياجات إعادة الإعمار وحدها 11 مليار دولار.
ثانياً – أثار طويلة الأمد على القطاعات الحيوية إذ تضرّر تكبّد القطاعات الأساسية في الاقتصاد اللبناني خسائر باهظة مثل القطاع السياحي – المصدر الأساسي للعملة الصعبة – والقطاع الزراعي مع خسائر هائلة لحقت بالمحاصيل وتلوثت الأراضي الزراعية، وتعطّلت حركة التجارة والخدمات اللوجستية في الجنوب والبقاع
ثالثاً – تراجع كبير في حجم الاقتصاد مع انكماش كبيرةمنذ العام 2020 وصل إلى حدود نصف الناتج المحلي الإجمالي لما قبل الأزمة. ويُتوقّع أن يتراجع الاقتصاد هذا العام مع استمرار التوترات الجيوسياسية.
الحلقة المفرغة من سوء الإدارة والصدمات الجيوسياسية
في المحصلة ومما تقدّم أعلاه، يُمكن تلخيص أزمة لبنان بأنها حلقة مفرغة من عنصرين أساسيين: الأول، سوء إدارة اقتصادية ومالية تمثّلت بنماذج إقتصادية فيها خلل هيكلي عميق أدّى إلى تراكم الدين العام وتآكل القطاعات الإنتاجية، وترسيخ اقتصاد يعتمد على التدفقات الخارجية بدل الإنتاج المحلّي والتنمية. والثاني، توترات وصراعات جيوسياسية أدّت إلى ضرب الاقتصاد وإعادته إلى نقطة الصفر نتيجة الحروب الداخلية والخارجية.
وبالتالي فإن أي مسار يهدف إلى الخروج من الأزمة، يجب أن يكون شاملاً ومتزامناً مع معالجة جذرية وإصلاحات هيكلية عميقة لتفكيك الاقتصاد الريعي وبناء اقتصاد متين ومُنتج، وإعادة هيكلة شاملة للديون السيادية والقطاع المصرفي. وبدون هذه المقاربة المتكاملة، سنبقى عالقين في هذه الدوامة المدمرة.
يرجى مشاركة تعليقاتكم عبر البريد الإلكتروني:
[email protected]
