أثار "التعميم الأساسي رقم 3"، الصادر عن مصرف لبنان أخيراً، تساؤلات الكثير من اللبنانيين عن مصير ما يختزنونه من دولارات. فهذا التعميم الموجَّه للمؤسسات المالية غير المصرفية، و"كونتوارات" التسليف، ومؤسسات الصرافة، وشركات تحويل الأموال داخلياً وخارجياً، يفرض تدقيقاً مشدّداً على العمليات النقدية، ويُلزم تلك المؤسسات بمعرفة وحفظ تفاصيل العملية، بما تتضمن من معلومات عن المحوِّل والمحوَّل إليه، ومصدر الأموال، وسبب تصريف المبلغ من عملة إلى عملة أخرى، إضافة إلى تبليغ هيئة التحقيق الخاصة والجهات المعنية في حال إثارة العملية أي شبهات.

القرار الصادر عن المصرف المركزي، والذي يمكن اختصاره بـ (KYC – Know Your Client) في أدبيات "الشمول المالي" الحديثة، ليس مستجدّاً على النظام المالي اللبناني بشقّه المصرفي؛ إنما الجديد هو تطبيقه على بقية المؤسسات غير المصرفية، في إطار التشدد في مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب.

المواطنون يخشون من التضييق

فكل عملية تحويل أو تصريف أموال تتجاوز 1000 دولار، يجب أن تترافق مع تعبئة نموذج (KYC)، وذلك ابتداءً من مطلع كانون الأول المقبل. وتكمن المشكلة، بحسب العديد من المواطنين، في أن أغلبية عمليات الدفع تتم نقداً عبر شركات تحويل الأموال أو الصرافين، نظراً لغياب وسائل الدفع الإلكترونية وانعدام الثقة بالقطاع المصرفي. وسيعجز جزءٌ كبير من المواطنين عن تبرير مصدر أموالهم، سواء كانت ناتجة عن عمليات سحب قديمة من المصارف، أو مقتطعة من الرواتب التي يتقاضونها، أو تحويلات من مغتربين حُمِلت باليد، أو نتيجة تسييل أصول بطرق حبية أو بأوراق غير رسمية، وغيرها من الأساليب المتداولة.

وتزداد المشكلة حدّةً مع تحوّل الاقتصاد اللبناني إلى اقتصاد نقدي بعد عام 2020. إذ تشير تقديرات "الدولية للمعلومات" إلى وجود مليارات الدولارات نقداً في خزائن الشركات والأفراد. والدليل أنّ اللبنانيين اشتروا خلال العامين 2021 و2022 حوالى 37 ألف خزنة حديدية، بلغ ثمن أكثر من 70 في المئة منها نحو ألف دولار، وهي خزائن مخصصة للمبالغ الكبيرة.

بنك معلومات

لا يمكن رؤية هذا التعميم وما سيرافقه من تشدّد في التطبيق من "وجهة نظر الاقتصاد الجزئي"، يقول العضو المستشار في لجنة الامتثال لمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب في نقابة المحامين في بيروت كريم ضاهر، بل من وجهة نظر الاقتصاد الكلّي. فالمشهد متكامل، والعِبرة تبقى في مفاعيل القرارات لا في مجرّد اتخاذها. و"تعمل السلطات القضائية والنقدية والمالية على إنشاء بنك معلومات لتتمكن تدريجياً من جمع العمليات المتداولة، وإحصائها، ومقاطعتها مع بعضها البعض ومع المصادر المعنية، وذلك في إطار مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب"، يضيف ضاهر.

مثال تطبيقي

المهم في القرار الأخير لمصرف لبنان أنه وسّع نطاق تطبيق متطلبات قانون مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب ليشمل طيفاً واسعاً من المؤسسات المالية غير المصرفية. ولتبسيط الصورة، يمكن أخذ مثال الصرّاف الذي يتلقى طلباً لإجراء عملية تتجاوز قيمتها 1000 دولار. في هذه الحالة يصبح ملزماً بتعبئة نموذج "إعرف عميلك" (KYC)، وهو نموذج لم يعد يقتصر على البيانات الأساسية مثل اسم العميل ورقم هاتفه ومحل إقامته والمعلومات الموجودة على الهوية، بل يتعداها إلى تفاصيل أدق تتعلق بسبب العملية وغايتها: فهل هي لتسديد دفعة مدرسية؟ أم حوالة للخارج؟ أم نفقات شخصية؟ أو ربما لتحويل أموال من الليرة إلى الدولار أو بالعكس؟كما يُطلب من العميل تحديد مصدر الأموال المستخدمة في العملية.

وهنا يكتفي النظام بتصريح العميل وتدوينه المصدر في الاستمارة، من دون أن يُلزم بتقديم إثبات مباشر. وبعد تسجيل العملية، يجب تَنفيذها خلال يومين، بحسب التعميم، "بما يتيح أولاً تتبع مسارها، وثانياً الحفاظ على سريتها، وثالثاً تحديد المسؤولية في حال ظهور أي شبهة لاحقاً"، يعلّل ضاهر. وتُرسَل هذه البيانات إلى هيئة التحقيق الخاصة، حيث تُخزَّن في أنظمة مراقبة متخصصة، وهو ما يمكّنها من مقاطعة المعلومات الواردة من الصرّاف مع بيانات أخرى تخصّ الشخص نفسه، كالمعاملات المنجزة لدى الكاتب العدل، أو الحسابات المرتبطة بالمحافظ الإلكترونية، أو سجلات السجل التجاري، أو أي مصادر رسمية أخرى. وبذلك تتكوّن صورة متكاملة تساعد على تحديد ما إذا كانت العملية التي قام بها العميل طبيعية أو مشبوهة.

فإذا صرّح أحد العملاء لدى الصرّاف أنه يتقاضى 300 دولار شهرياً من وظيفته، تتيح عملية التقاطع اللاحقة كشف ما إذا كانت العمليات المالية التي يجريها تتجاوز دخله المعلن بشكل غير منطقي أو تفوق قدرته، ما قد يرفع "الراية الحمراء" في النظام الإلكتروني، إيذاناً بضرورة التدقيق في مصدر تلك الأموال ووجهتها، واحتمال ارتباطها بعمليات فساد أو تبييض أموال لمصلحة أطراف أخرى.

الغاية الأساسية من هذا النظام، إذاً، "ليست الاستجواب المباشر للناس"، برأي ضاهر، "بل الوصول إلى نتائج دقيقة لاحقاً عند تقاطع البيانات من مصادر متعددة. فالأشخاص الذين يحتفظون بأموالهم في منازلهم، بسبب عدم الثقة بالقطاع المصرفي، لا خوف عليهم ما دامت عملياتهم مشروعة ويمكن تتبع أثرها". فإذا أراد أحدهم مثلاً تحويل أموال إلى الخارج لتسديد أقساط جامعية، يمكنه ببساطة الإشارة إلى أن هذه الأموال ناتجة عن سحوبات مصرفية سابقة أو مدخرات شخصية؛ وهي ادعاءات قابلة للتتبّع، ولا تُعد مخالفة. "أما الحالات التي تثير الشبهات فهي تلك التي لا تتوافق فيها حركة الأموال مع الدخل المصرّح عنه أو مع السجلات المالية والضريبية"، يضيف ضاهر، و"هنا يتدخل النظام الضريبي ووزارة المالية للتدقيق وفرض الضريبة المستحقة عند الاقتضاء، أو حتى للملاحقة في تهم تبييض الأموال وتمويل الإرهاب".

قرار مصرف لبنان لا يشكل تهديداً للأفراد والعائلات التي لا عيب في مصدر أموالها"، يؤكد ضاهر. فالهدف النهائي لهذه المنظومة هو تطويق العمليات غير المشروعة، وتمهيد الطريق لإعادة الثقة بالنظام المالي، وبالتالي إعادة جزء من الكتلة النقدية إلى القطاع المصرفي، أجلاً إن لم يكن عاجلاً.