وسط ازدحام المشهد السياسي بالأحداث المتتالية، مرَّ خبر قسَم يمين أداه أعضاء "الهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسراً" التي شُكِّلت أخيراً، في قصر بعبدا، مرور الكرام، على الرغم من أن قضية هؤلاء هي من الآثار التي خلفتها الحروب على أرض لبنان، حافرةً جراحات لم تندمل، ما زالت تنزّ منذ نصف قرن.
صحيح أن هذه الهيئة الرسمية ليست الأولى تُشكَّل لجلاء مصير المفقودين والمخفيّين قسراً، لكنها خطوة مهمة، خصوصاً بعد سقوط نظام الأسد الذي حُمِّلَ مسؤولية إخفاء مئات من هؤلاء، إما في سجونه، وإما تحت التراب السوري. وحتى الآن، وبعد تسلم أحمد الشرع وأتباعه زمام الحكم في سوريا، لم تنجلِ حقيقة الأمر؛ وخصوصاً أيضاً بعد الحراك الرسمي السوري تجاه لبنان، لحل مسألة السجناء السوريين فيه.
يُتَّفق على أن المفقودين يبلغ عددهم حوالي 17 ألفاً، من دون احتساب موجة خطف درجت، في ما مضى من سنوات، كان ضحاياها "طرائد" ثمينة يبتزها الخاطفون ماليّاً، لكن الجيش اللبناني والأجهزة الأمنية نجحت في "فك رقبة" عصابات الخطف هذه، بعدما حزمت السلطة السياسية أمرها، على هذا الصعيد، ولو متأخرة.
لكن المؤرخة ديما زين دوكليرك شكّكت في الرقم الوارد أعلاه، حاصرة العدد ببضعة آلاف لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، على أبعد تقدير.
أما المخفيون قسراً فهم بالمئات، وكان عدد كبير منهم في السجون السورية، (أطلقت السلطات السورية، زمن نظام الأسد بعضهم) أو تحت تراب لبنان، وقد صفَّتهم جسديّاً الجهة التي خطفتهم خلال الحرب، وظُنَّ أنهم في سجون سورية، كما كانت مثلاً حال سبعة من أحد عشر عسكريّاً، سقطوا خلال معارك 13 تشرين الأول 1990، وُجدت جثثهم في مقبرة جماعية في ملعب تابع لوزارة الدفاع، قبل سنوات.
لم تنفع اللجان التي شكلتها الحكومات المتعاقبة منذ أواخر تسعينات القرن الماضي، وحتى اليوم، ولا "العلاقات المميزة" و"وحدة المسار والمصير" التي كانت سائدة زمن الاحتلال السوري للبنان، ومن ثم الشكل الجديد للعلاقة بين دمشق وبيروت، وقد جُسِّد بتبادل السفراء بينهما، بعد زوال الاحتلال... وحتى بعد قيام الحكم الجديد في سوريا، و"الهمروجة" التي رافقت اقتحام السجون في سوريا، في جلاء مصير لا المفقودين ولا المخفيين قسراً.
حكي عن مقابر جماعية كثيرة في لبنان، وحين علت الأصوات مطالبة بالكشف عليها، سُيِّس الموضوع، كما تجري العادة مع أي موضوع يطرح. واعترف أمراء حرب بأنهم أمروا، خلالها، بتصفيات جسدية، أو علموا بحدوثها. ويقال إن ثمة تقارير لدى الأجهزة الأمنية المعنية عن مقابر جماعية كثيرة، لكنّ فتح ملفِّها حساس جدّاً، لأنه يطال أشخاصاً في مناصب رسمية، وجهات ممثلة في الحكومات، السابقة وصولاً إلى القائمة اليوم...
لكنَّ ثمة خيمة اعتصام، كان الأطول ربما في تاريخ لبنان، في ساحة جبران خليل جبران، أمام مبنى الإسكوا، وسط بيروت، أبقت هذه القضية حية، لأنها حق وراءه مطالبون، من لجان لا غاية سياسية لها، وأمهات وذوي مفقودين ومخفيين قسراً لم تجفّ دموع انتظاراتهم بعد.
فكرمى لهذه الدموع، ولئلا تبقى تجلد ضمير من يعرف حقيقة ما، أي حقيقة، عن هذا الجرح المفتوح، ويكتمها، أو يعرقل أي مسعى أو خطوة لتضميده، كنت تقدمت شخصيّاً باقتراح خلال اعتصام حاشد في تلك الخيمة، بثت وقائعه على الهواء مباشرة، إحدى محطات التلفزة المحلية، وسبق أن طرحتُه على أكثر من جهة، ولم يترجم بعد، إلى أن سمعت أحد النواب، يأخذ به، ويقدمه اقتراح قانون إلى المجلس النيابي، ويعلنه حلّاً لهذه القضية المزمنة... ما همَّ نسبه إليّ أو تواردت بيننا الأفكار.
وكان منطلقي إلى هذا الاقتراح أنني شاهدت بأمَّ العين، بعد يومين على سقوط الكرنتينا، في كانون الثاني من العام 1976، وكنت برفقة صديق، ووسط مجموعة شبان من الأرمن، وشجر الكينا المقصوف عمره في تلك المعركة، جرافة يقودها شاب ملتح، أحدثت حفرتين كبيرتين في الأرض، ألقت فيهما كومتين من الجثث المشقوعة بعضها فوق بعض ومحروقة، وأهالت عليهما التراب، ثم مرت محدلة صغيرة وسوت الأرض هناك.
الحل سهل وبسيط، أكرّره الآن، ويفترض به ألا يُحرج أيّاً من الأحزاب أو الميليشيات التي خاضت الحرب، وارتكب مَن ارتكب منها فظاعات أو تصفيات جسدية، ويجب أن يساعد السلطة السياسية على تحقيق إيجابية تغفر لها ولسابقاتها، سلبيات كثيرة.
كل المطروح لجلاء مصير مفقودين ومخفيين، يبدأ من لبنان، بإنشاء عنوان بريدي، لصندوق بريد عادي، ويمكن أن يكون إلكترونيّاً. يُرسل إليه، من دون ذكر اسم أو عنوان، مَن صفَّى أحداً خلال الحرب، أو شارك في تصفيته، أو علم بأمر تصفيته، أو دفنه شخصيّاً، أو علم بمكان دفنه، ويريد اليوم أن يرتاح من وخز ضمير، أو من جبل همٍّ يثقل على صدره، رسالة تفيد بواقعة من هذا القبيل كان مشاركاً فيها أو مطلعاً عليها.
أما وقد ألفت "الهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسراً"، فإلى أهمية الأعضاء الذين ضمتهم، ينبغي لها أن تتعاون مع معنيين وقضاة وأمنيين وممثلين للجان المفقودين والمخفيين قسراً، وممثلين لمنظمات إنسانية لبنانية ودولية، وجهاز مختص بالحمض النووي، تحال على الهيئة هذه الرسائل، فتدرس كل واقعة تَرِدُ عليها، وتتحقق ممّا ورد فيها، بالمعاينة الميدانية. وحينذاك تبدأ خطوة الألف ميل في كشف حقائق كثيرة، وتنتهي رحلة عذابات ذوي هؤلاء الضحايا.
المرتكب الذي ربما تمنعه جهة حزبية ينتمي إليها من البوح العلني بما يعرف، سيجرؤ على البوح المكتوب، من دون أن تُعرف هويته أو اسمه أو عنوانه. فيكون كمن يعلن توبة أو يكفر عن ذنب.
والسلطات المعنية تخطو خطوة إنسانية راقية، بسعيها إلى جلاء حقائق، كانت لتبقى أسيرة ذاكرة إنسان أو ضميره، أو مدفونة في التراب، لو لم تبادر.
والمخفيون أو المفقودون سيفرحون، ولو موتى، لأن انتظارات ذويهم أثمرت أخيراً معرفة للحقيقة.
أسماء كثيرة ستعرف، ولا تعود تدخل في عداد المفقودين أو المخفيين، ويستطيع ذوو أصحابها دفن رفاتها، وبالتالي تدبر أمور تتعلق بملك وإرث وأموال "لا معلقة ولا مطلقة".
اقتراح عملي... في غمرة الانشغالات السياسية والأمنية والاقتصادية والمعيشية، والانتخابية والإقليمية والدولية، فهل من يتبنَّى؟
يرجى مشاركة تعليقاتكم عبر البريد الإلكتروني:
[email protected]