ارتاح عموم اللبنانيين إلى استقرار سعر صرف عملتهم مقابل الدولار في العامين المنصرمين، ونَمَت إيراداتُ الدولة بشكل كبير، وعادت احتياطيات النقد الأجنبي لتحقيق فوائض مرقومة. وهذا كله يعود إلى السياسة النقدية التي سار بها المصرف المركزي، منذ عهد الحاكم بالإنابة وسيم منصوري، بين نقاط الحرب الإسرائيلية، والأزمات السياسية، وضعف الإصلاحات الهيكلية. إلا أن هذه الإيجابيات المحققة لم تكن "مجانية"، بل مدفوعة الثمن مسبقًا، ومكلفة لاحقا. فهي أتت، من جهة، على حساب النمو الاقتصادي، وارتفاع الفوائد، والعجز عن كبح التضخم. وتجنّبت، من الجهة الأخرى، "اتباع الكتاب" بالطريقة التي اعتمدتها، فانتقت منه ما يلائمها، ورمت الباقي.

يقال في الأمثال الشعبية اللبنانية: "إن أكلت، كُل واشبع، وإن ضربت، اضرب وأوجع". وهذا ما لم يفعله مصرف لبنان في مواجهة الانهيار المستمر في سعر الصرف، إذ اختار الخروج الحاد من نظام تثبيت السعر التقليدي، إلى ما يشبه "مجلس النقد" Currency Board، وذلك على حدّ تصريح نائب حاكم مصرف لبنان الثالث، الدكتور سليم شاهين، في مؤتمر افتراضي حول لبنان استضافه معهد التمويل الدولي IIF، في 30 أيلول المنصرم. ومن المعروف أن هذا النظام النقدي يُعتمَد كضربة قوية، أخيرة وصادمة، بعد فشل كل محاولات الإصلاح النقدي. وقد أثبت نجاحه في العديد من البلدان، كبلغاريا مثلاً، شرط تطبيقه حرفيّاً، لا انتقائيّاً.

مجلس النقد "مزيف"

بكلمات مختصرة، يمكن تعريف مجلس النقد بأنه نظام نقدي، يربط العملة الوطنية بعملة أجنبية قوية (غالباً الدولار أو اليورو)، بحيث يلتزم المصرف المركزي بإصدار العملة المحلية فقط مقابل ما يملكه من احتياطيات بالنقد الأجنبي. ويهدف هذا النظام إلى تحقيق استقرار في سعر الصرف وضبط التضخم، وتقييد قدرة الدولة على تنفيذ سياسات نقدية مستقلة. إلا أن هذا ما لم يعتمده بالضبط المصرف المركزي، إنما "مجلس نقد مزيف" (fake currency board)، كما أعلنت قبل عامين، تقول الباحثة في الاقتصاد النقدي د. ليال منصور. فأساس مجلس النقد يقوم على استبدال العملة القديمة، الليرة، بعملة جديدة تحظى بثقة المتعاملين، وإصدار كميات منها، بقدر ما يدخل على البلد من دولارات نقدية، والتوقف عن إقراض الدولة أو تمويلها بأي شكل من الأشكال. وهذا ما لم يحصل.

"يتطلب اعتماد مجلس النقد في لبنان بشكل رسمي تعديل قانون النقد والتسليف"، تقول البروفيسورة في كلية العلوم الاقتصادية في جامعة القديس يوسف، سهام رزق الله. إلا أن الاهتداء به بشكل غير رسمي "أعطى نتائج إيجابية"، تضيف رزق الله، "ولا سيّما لكون اقتصادنا مدولرا بشكل شبه كامل، على أصعدة التسعير، والتداول، والادخار، وهي الوظائف الأساسية لأي عملة".

وبحسب رزق الله فان "نظامنا النقدي تحوّل إلى ما يشبه النظام المعتمد في الإكوادور، حيث لا تُطبَع العملةُ المحلية إلا لأغراض "الفكة" وبالأرقام الصغيرة. وعليه، فإننا في لبنان نعتمد سياسة التثبيت الصارم، في دولرة شبه شاملة، إنما غير مُعلنة رسمياً، أو بانتظام يشبه القواعد الصارمة لمجلس النقد، دون أن نعتمده أو نُصوّت عليه رسميا".

خطر العودة إلى طباعة الليرات

وعلى الرغم من تحقيق هذه السياسة بعض الفوائد، إلا أنه "لا يمكننا الاعتماد عليها بشكل دائم"، تؤكد رزق الله، "كون لا شيء يمنع العودة إلى طباعة العملة". فالاتفاق على وقف طباعة الليرات هو اتفاق ضمني وليس إلزامياً. وهذا ما يشكّل خطرا في المستقبل، لأن البلدان التي أعلنت اعتمادها سياسة مجلس النقد، ولم تلتزم بتطبيق هذه السياسة بحذافيرها، جنحت في وقت من الأوقات، عندما احتاجت إلى طباعة العملة وتمويل عجزها، إلى التخلي عنها فعليا، والعودة إلى نظام يشبه الربط المرن، وذلك على غرار الأرجنتين".

بدورها، تؤكد الدكتورة ليال منصور على أن "اعتماد سياسة نقدية شبيهة بـ"مجلس النقد" ريثما تنتهي الازمة، والعودة إلى سياسة "التعويم المدار"، لا يعتبر أمراً صحياً أو صحيحاً على الإطلاق، لأن الثقة بالليرة فُقدت كلياً. والدليل: عدم ازدياد الطلب عليها على الرغم من الاستقرار الحاصل وبقاء نسبة الدولة بحدود 97 في المئة، الأمر الذي يؤكد ضرورة الاستغناء عن الليرة، واستبدالها بعملة جديدة.

التضخم يرتفع

خلال 20 شهرا جمّع مصرف لبنان أكثر من مليار و900 مليون دولار من احتياطي النقد الأجنبي، رغم أن التغيّر في المعروض النقدي بالليرة ظل ضئيلاً جداً، ولم يتجاوز 800 مليون دولار. ما يعني أن مصرف لبنان اعتمد مجلس نقد تقييدي ومتشدد. وهو الأمر الذي أدى إلى شحّ بالليرات، وعجز عن إنفاق الليرات لتحسين الأجور، أو تمويل إعادة الإعمار، أو غيرها العديد من الحاجات. كما أدت سياسة "حبس" الليرة إلى ارتفاع أسعار الفائدة بين البنوك "الإنتربنك"، إلى مستويات وصلت إلى 150 في المئة، ودفعت البنوك إلى التهافت على استقطاب الليرات مقابل فوائد مرتفعة.

في المقابل ظلت نسبة التضخم ترتفع باضطراد، رغم ثبات سعر الصرف منذ تشرين الثاني على 89500 ليرة مقابل الدولار. وقد بينت أرقام مؤشر أسعار المستهلك أن الأسعار ارتفعت بنسبة 52 في المئة لغاية شهر آب الماضي. وهذا يعني أن ارتفاع الأسعار لم يعد مرتبطاً بانخفاض سعر الصرف، كما كان يحصل في العامين الأوليين على الانهيار، وأن التشبه بـ "مجلس النقد" في السياسة النقدية لم يعط النتائج المرجوة منه.

على الرغم من الاستقرار في سعر الصرف الذي أمنته السياسة النقدية المتبعة، فإن الاتجاه مستقبلاً سيكون نحو تحرير سعر الصرف، بناء على طلبات صندوق النقد. وقد توقع "جي بي مورغان" أن تنخفض الليرة إلى نحو 116 ألف ليرة مقابل الدولار، بشكل تدريجي، بعد تحرير سعر الصرف، أو بعد العودة إلى اعتماد سياسة "التعويم المدار". ولعل هذا ما يؤكد صحة النتائج المحدودة جدا لاعتماد سياسة شبيهة بمجلس النقد، بدلا من تطبيق هذه السياسة بشكل كامل وناجز.