في كل عام، تجذب مسابقات ملكات الجمال أنظار الملايين حول العالم. تُنظ َّم الفعاليات وتُرفع الأعلام وتُمنَح التيجان، ويُحتفى بـ "أجمل النساء" وفقاً لمعايير وضعتها لجان تحكيم غالباً ما تتبنى صورة نمطية محدَّدة عن "الجمال الأنثوي". ولكن، وسط هذه الأضواء والبريق، تُثار تساؤلات جوهرية: من الذي يحدِّد ما هو جميل؟ ولماذا تُختزَل المرأة في مظهرها الخارجي؟ وهل هذه المسابقات تُعزّز فعلاً تقدير الذات لدى النساء، أم تُكرّس ثقافة المقارنة والتجميل الصناعي والتنميط الجسدي؟

أولاً: معايير الجمال… من يضعها؟

في كل مسابقة جمال، تُقيَّم المتسابقات بناءً على "معايير" تشمل الطول والوزن وتناسق الجسم ونضارة البشرة وتسريحات الشعر. وغالباً ما يُمنَح الجمال الأبيض، أو ما يُعرف بـ "الجمال الغربي"، الأفضلية في النتائج النهائية. لكن، من الذي قرّر أن الأنف الدقيق أفضل من العريض؟ أو أن البشرة الفاتحة أجمل من الداكنة؟

معايير الجمال ليست كونية، بل اجتماعية وثقافية، تتشكل عبر الزمن، وتتغير بحسب العصور والثقافات. في أفريقيا مثلاً، يُعَدّ الجسدُ الممتلئ رمزاً للخصوبة والجاذبية. في اليابان، يُفضِّل بعض الرجال البشرة الفاتحة والأسنان غير المتناسقة كدلالة على "البراءة". في أميركا الجنوبية، تُفضَّل القامة الممشوقة والأرداف البارزة. إذن، الجمال نسبي، َفيه مجرَّد وهم.

ثانياً: من أين جاءت هذه المسابقات؟

تعود أولى مسابقات ملكات الجمال إلى أواخر القرن التاسع عشر، إذ نُظِّمت أوّلُ نسخة منها عام 1854 في الولايات المتحدة. لكنها لم تأخذ شكلها الرسمي إلا في عشرينيات القرن الماضي. كانت المسابقات في بداياتها جزءاً من الترويج السياحي أو التجاري، قبل أن تتحول إلى صناعة قائمة بذاتها، تدعمها شركات مستحضرات التجميل والأزياء والإعلام.

الخبيرة النسوية نعومي وولف، في كتابها الشهير Myth of Beauty، تشير إلى أن الجمال أُعيد اختراعه ليكون أداة للسيطرة على النساء، خصوصاً بعد تحقيقهن مكاسب سياسية واجتماعية. فبينما خرجت النساء للعمل، طُلب منهن أن "يبقين جميلات" وفق قوالب محدَّدة، ما زاد الضغط النفسي عليهن بدلاً من أن يُحرّرهن.

ثالثاً: هل ما نراه طبيعي؟

واحدة من القضايا المثيرة للجدل في مسابقات ملكات الجمال اليوم هي قبول المشاركات اللواتي خضعن لعمليات تجميلية. الفيلر، البوتوكس، تحديد خط الفك (Jawline)، تصغير الأنف، ورفع الحواجب، أصبحت "تحسينات" شائعة بل متوقَّعة. نادراً ما تجد متسابقة لم تزر عيادة تجميل واحدة على الأقل.

كيف يمكن لمسابقة أن تدّعي تقييم "الجمال الحقيقي" بينما غالبية المشاركات خضعن لإجراءات تجميلية؟ بل كيف يُشجع المجتمع على تعميم نموذج اصطناعي للجمال بين فتيات لم يتجاوزن الخامسة والعشرين بعد؟ المشكلة لا تكمن فقط في خضوع المشاركات للتجميل، بل في أن ذلك يعكس ضغطاً اجتماعياً رهيباً يجعل من "الجمال الطبيعي" شيئاً ناقصاً أو غير كافٍ.

رابعاً: من الجمال الطبيعي إلى "التجميل الطبيعي"!

في مفارقة مثيرة، أصبح التجميل يُسوَّق اليوم تحت شعار "الطبيعي". ملامح متشابهة لنساء من بلدان مختلفة: نفس الأنف الصغير، نفس الشفاه الممتلئة، نفس الذقن المحددة، نفس الحاجبين المرسومين. هل ما نراه هو تنوع في الجمال؟ أم نسخة واحدة مستنسخة لعشرات "الملكات"؟

في هذا السياق، تتحول مسابقات الجمال إلى ما يشبه إعلاناً ضخماً لصناعة التجميل، ما يرسّخ لدى الفتيات فكرة مفادها أنهن لسن "كافيات" ما لم يُعِدن تشكيل وجوههن وأجسادهن. وهي فكرة خطيرة، خصوصاً أنها تُقدَّم على أنها "تحسين للذات" بدلاً من أن تُسمى باسمها الحقيقي: "خضوع لضغط معياري مجتمعي".

معدلات الجراحة والتجميل لدى الشابات

بحسب مسح ISAPS الجمعية الدولية للجراحة التجميلية لعام 2022، فإنّ تكبير الثدي وشفط الدهون وجراحة الجفن وشد البطن هي من أكثر العمليات الجراحية التي تطلبها النساء.

الإجراء غير الجراحي الأكثر شيوعاً هو حقن البوتوكس، يليه الحشوات (فيلر) وحالات إزالة الشعر وغيرها.

أيضاً في 2023، مثلت العمليات التجميلية للنساء نحو 85.7٪ من جميع حالات الجراحة التجميلية عالمياً، ما يبيّن أن الغالبية العظمى من المتوجهين للتجميل هم من النساء.

وجدت دراسة أن جراحات الوجه التجميلية (facial plastic surgery)، مثل الجفون والأنف (septorhinoplasty) والـ brow-lift، ازدادت لدى حالات تحت سن الثلاثين بين السنوات 2018 و2021ـ وهو ما يشير إلى ارتفاع ملحوظ في الفئة العمرية الصغيرة

في مالطا مثلاً، رئيسة قسم التجميل في مستشفى تحدثت عن ازدياد في عدد الشابات من 16 إلى 25 سنة اللّواتي يطلبن إجراءات تجميلية غير جراحية، مثل الشفط غير الجراحي للأنف، وتكبير الشفاه بالفيلر، مستدركة أن هذا الأمر معظمه من تأثير وسائل التواصل الاجتماعي والتنمّر عبر الإنترنت.

هل نعيد النظر؟

لا يعني انتقاد مسابقات ملكات الجمال رفض الاحتفاء بالجمال أو إنكار قيمته، بل هو دعوة لإعادة تعريف الجمال بعيداً عن القوالب الضيقة التي تُفرض على النساء. الجمال يجب ألا يكون سبباً للمقارنة أو الشعور بالنقص، بل مصدر تنوع وغنى. وربما آن الأوان لنتساءل: هل نريد فعلاً أن تظل صورة المرأة مقيَّدة بالمظهر فقط؟ أم نريد لها أن تُقَيَّم بعقلها، إنجازاتها، ومساهمتها في المجتمع؟

الجمال الحقيقي ليس في تفاصيل الوجه، بل في حضور المرأة، فكرها، وطريقتها في الحياة.