عاماً بعد آخر، تتكرّر على مسامع اللبنانيين "سمفونية" الموازنة. "اللحن" موضوعٌ على "مقام" الضرائب والرسوم، و"النوتات" مليئة بالنفقات التشغيلية على حساب النفقات الاستثمارية. ومع ذلك، فإن النشاز في العزف، الذي لا يُخفى حتى على معدومي الأذن المالية والاقتصادية، يصوّره المسؤولون على أنه طربٌ أصيل يحقّق النمو ويسعد المواطنين.

موازنة العام 2026 لم تشذ عن هذه العادة؛ فقد صُوّرت على أنها متوازنة، وعادلة، ولا تتضمن ضرائب جديدة، ومحطّة انطلاق أساسية في عملية التنمية الاقتصادية، فيما هي لا تحيد عن سياق الموازنات السابقة. بالإيرادات، تعتمد بشكل شبه كلي على الضرائب غير المباشرة، مع إهمال واضح للإيرادات الاستثمارية، ولنا في الأرقام المحققة في العام 2024 خير دليل على الطريقة التي تُدار بها المالية العامة.

أرقام 2024 المالية خير دليل

بنظرة إلى أحدث الأرقام المالية الصادرة عن العام 2024، يتبين أن الإيرادات الحكومية المحققة لغاية نهاية العام بلغت 3 مليارات و891 مليون دولار، منها 2 مليار و834 مليوناً إيرادات ضريبية، تشكل 83 في المئة من إجمالي الإيرادات. واحتلت الضريبة على القيمة المضافة (TVA)، رأس قائمة الإيرادات بقيمة ناهزت المليار و342 مليون دولار، تمثل 47 في المئة من مجمل الإيرادات الضريبية.

في المقابل فإن الإيرادات غير الضريبية في العام 2024، مثّلت 17 في المئة فقط من مجمل الإيرادات، وبقيمة تناهز 585 مليون دولار، منها إيرادات الاتصالات التي بلغت نحو 222 مليون دولار.

ومما يتضح من الأرقام، فإن التعويل لا يقتصر على الإيرادات الضريبية فقط، إنما على الضرائب غير المباشرة مثل الضريبة على القيمة المضافة التي تمثل نحو 50 في المئة من الضرائب. وهذا الأمر يعتبر بالغ التأثير السلبي على قدرة العائلات محدودة الدخل وعلى العدالة المجتمعية.

الغاية من الموازنة

على النقيض من سياسة الحكومة التي تطمح إلى تحقيق فائض أولي، فإن الهدف من الموازنات هو تنموي بالدرجة الأولى. وهذا ما لم تلحظه الموازنات السابقة، ولا تلحظه موازنة 2026. فصحيح أن موازنة 2024 حققت فائضاً بقيمة 36 مليون دولار، إلا أن النمو كان شبه معدوماً. والموازنة في النهاية "هي الأداة الأساسية للمالية العامة، هي وسيلة للتدخل في الحياة الاقتصادية والاجتماعية بهدف تحقيق البرامج والوعود التي التزمتها السلطات السياسية، والتي يقتضي، كما وفي كل ديمقراطية تشاركية، أن تحاسب على أساسها"، بحسب ورقة الملاحظات الأولية والمبدئية على البنود الضريبية والقانونية الواردة في مشروع قانون موازنة 2026، التي أعدتها "الجمعية اللبنانية لحقوق المكلفين" (ALDIC). ومما يتبين أن" مشروع الموازنة يكتفي بالحلول السريعة والمجزأة وغير الفعّالة لزيادة الإيرادات بهدف تغطية النفقات العامة التشغيلية دون الإستثمارية ليس إلا".

غياب العدالة الضريبية

بصرف النظر عن كل المساعي "الشكلية" للحد من التهرب الضريبي، وزيادة العائدات الجمركية، لا تزال العدالة الضريبية مغيّبة في شقّيها العمودي والأفقي. فمن جهة الخلل العامودي، هناك نظام ضرائب نوعي بالٍ، يتيح إخفاء مصادر دخل عديدة، وتمييز الأعباء الضريبية وفقاً للنسب المعتمدة بالنسبة لكل ضريبة نوعية. أما الخلل الأفقي فيتمثل بنسب التهرب الضريبي المرتفعة، وتكرار المشرّعين إعطاء التخفيضات والإعفاءات في كل عام، وفي كل موازنة.

الحلول

إزاء هذا الواقع الذي يهدد بتفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، وبنقل كل الأعباء على كاهل المواطنين، وبتقليص عائدات الخزينة، طرحت "الجمعية اللبنانية للضرائب"، مجموعة من الحلول، التي لا تحتاج إلا إلى النية الحسنة لتطبيق الإصلاحات، ومنها:

- الانتقال من نظام الضرائب النوعي إلى نظام الضريبة الموحدة على الدخل، الذي يتحكم في وضع جميع الإيرادات، بمختلف أنواعها ومصادرها، في الداخل والخارج، ضمن وعاء ضريبي واحد خاضع لضريبة تصاعدية، وفقاً للشطور المحددة من قبل المشرّع، وذلك بدلاً من أن يكون لكل نوع من الإيرادات نظامه ونسبته وآلياته المختلفة.

- العمل على تحصيل الحقوق والمستحقات القديمة قبل سقوطها بمرور الزمن، ومنها: المستحقات على أصحاب الكسارات والمقالع والمرامل، التي تقدر قيمتها بما يفوق 3 مليارات دولار، وفقاً للأرقام المتداولة.

- تحصيل ما هو مستحق وما هو متوجب بالنسبة لشاغلي الأملاك العامة البحرية والنهرية وسائر المتعدّين على الأملاك العامة.

- تنفيذ ما كان قد نص عليه قانون الموازنة رقم 2019/144 لجهة إلزام البلديات بإجراء مسح شامل ضمن نطاقها الجغرافي لتحديد المؤسسات المسجلة وغير المسجلة لدى الإدارة الضريبية؛ مما يسمح بإحصاء وتتبع المؤسسات غير الملتزمة بموجباتها الضريبية. و من هذه المؤسسات يبرز: مشغلي المولدات غير الشرعيين، وشركات الإنترنت والكابل العشوائية وغير المرخصة. ومن المهم تشريع إعطاء البلديات حوافز بشكل مماثل لتلك الموجودة في قانون "كاشفي الفساد" (القانون رقم 2018/83)، الذي يتيح منح نسبة من التحصيل لمن يكشف الفساد. فتمنح الدولة البلديات نسبة محددة من المبالغ التي تحصلها الإدارة الضريبية بناءً على المعلومات والتبليغات التي توفرها والنتائج التي يتم تحقيقها لجهة التحصيل.

- الإنتقال من نظام موازنة البنود المعتمدة حالياً إلى "موازنة النتائج"، أي القانون التنظيمي (loi organique) الذي يسعى إلى المحافظة على التوازن بين مبدأي الحرية للحكومة والمراقبة للبرلمان. وبالتالي، إزاء الحرية التي تمنح للحكومة، يتم تعيين المسؤولين عن البرامج من وزارات وهيئات بصورة واضحة لتتمكن من محاسبتهم على أساس النتيجة المرجوة وحسن الأداء (Performance ). هذا فضلًا عن أن الاعتماد على مبدأ "موازنة النتائج" يؤمّن شفافية أكبر، بحيث يتمكّن المواطنون من معرفة وجهة استعمال الواردات، وفعالية كل تدبير وعدالته.

- العودة إلى مشروع قانون ضريبة الدخل الجديد الذي أعدته وأنجزته لجنة خاصة عينتها الحكومة السابقة بالتنسيق مع صندوق النقد الدولي.

"من نافل القول إن مشروع الموازنة لهذا العام خالٍ من الرؤية الاقتصادية وبرامج الإصلاح الفعلي، وقد أتى بمعزل عن خطة تعافٍ عادلة وموضوعية متوافق عليها.