تُفضي كل محاولات الخروج من الاقتصاد النقدي إلى طريق مسدود. وعبثاً تحاول السلطة النقدية العودة إلى الشمول المالي، ما دام القطاع المصرفي معطَّلاً. وعلى الرغم من أهمية الإجراءات التي تشدّد عليها الجهات الدولية، فان استمرار فقدان الثقة بالوضع الاقتصادي عامة، وبالبنوك خصوصاً يقوضّ كل الجهود؛ أو يجعلها، في أحسن الأحوال، كمن يعبّئ الماء في سلة من قش.
قبل أيام أصدر مصرف لبنان التعميمين الوسيطين 742 و743 بشأن الشيكات، وعمولات نقاط البيع. ينص التعميم الأول على ضرورة التزام المصارف، عند إصدار الشيكات المصرفية، بالتأكد من أنها ستستخدم لأغراض شخصية، أو تجارية، وليس للمضاربة على الليرة. وينص التعميم الثاني، على أن عائدات الدفع ببطاقات الليرة اللبنانية للأفراد (Debit cards)، عبر أجهزة نقاط البيع المحلية (POS machines)، لا تخضع لأي نوع من القيود أو العمولات. ويمكن سحب هذه العائدات نقداً أيضاً.
مكافحة الاقتصاد النقدي
تكمن أهمية هذا التعميم في تحفيز المتاجر، ومحطات المحروقات، ومختلف نقاط البيع، والتجار على قبول الشيكات وبطاقات الدفع الإلكتروني لتسديد ثمن المشتريات، بدلاً من الدفع نقداً.
وكانت أغلبية نقاط البيع قد امتنعت كلياً، خلال السنوات الماضية، عن قبول التسديد بالبطاقات أو الشيكات، بسبب رفض المصارف تسييل المبالغ العائدة من هذه المدفوعات. ذلك أن معظم هذه المبالغ كانت تأتي من التعميم 151، الذي كان يسمح بسحب 24 مليون ليرة، منها: 12 مليون ليرة توضع في حساب البطاقات بشكل إجباري. وهو الأمر الذي أوقع المتاجر بخسائر أو بمشاكل مع التجار والموردين، نتيجة نقص السيولة. فقررت التوقف عن قبول الدفع بالوسائل غير النقدية.
وقد أدى تمنّع المصارف وقتها إلى تفشي الاقتصاد النقدي من جهة، وتضرّر المودعين الذين تكدّست الأموال في حساباتهم من دون القدرة على صرفها، من الجهة الثانية.
التجارب السابقة غير مشجّعة!
مع تفشي الاقتصاد النقدي، وتفاقم مخاطر إدراج لبنان على اللائحة الرمادية لمجموعة العمل المالي لمكافحة تبييض الأموال، اتخذ مصرف لبنان مجموعة من الخطوات للحد من هذا الانفلات. فأصدر في نيسان من العام 2023 التعميم 165، الذي سمح للمصارف بإصدار شيكات بالليرة والدولار من الحسابات النقدية حصراً (Fresh Lira and Dollar). كما أنشأ "المركزي" وحدة مقاصة لتسوية هذه الشيكات. وكان الهدف الأساسي من هذا التعميم هو تحفيز أصحاب الحسابات النقدية على التوقف عن تسديد مدفوعاتهم بشكل نقدي، والانتقال إلى استعمال الشيكات، إلى جانب التشجيع على فتح حسابات جديدة بالليرة والدولار، بهدف تقليل الاعتماد على النقد، وتحفيز الانتعاش الاقتصادي.
ومع ذلك، لم تلقَ هذه الخطوة الرواج المطلوب. فبحسب آخر الأرقام الصادرة عن جمعية المصارف، يتبيّن أن العدد التراكمي للشيكات الصادرة من الحسابات الجديدة بلغ 34.5 ألف شيك خلال النصف الأول من العام الحالي. وهذا الرقم لا يشكّل أكثر من 0.7% مما تمّ تداوله في الفترة نفسها من العام 2018، حيث يُظهر تقرير "الوضع الاقتصادي والمالي والمصرفي – حزيران 2019" تداول نحو 5 ملايين شيك. أما من ناحية القيمة، فقد بلغ مجموع قيمة الشيكات النقدية بالليرة والدولار في النصف الأول من العام الحالي، نحو 525 مليون دولار، مقارنة بـ27.4 مليار دولار في الفترة نفسها من العام 2019.
سيطرة الاقتصاد النقدي
لن يُكتب النجاح لكل محاولات ضبط الاقتصاد النقدي والحد من تفشيه ما لم تقترن بإعادة هيكلة المصارف وعودة الثقة بها. فبحسب المعلومات، يسيطر الاقتصاد النقدي على نحو 65% من مجمل الاقتصاد. وقد سبق لأمين عام هيئة التحقيق الخاصة – وحدة الإخبار المالي اللبنانية- عبد الحفيظ منصور، أن قدّر قيمة الاقتصاد النقدي، خلال مشاركته في مؤتمر في العام 2024، بـ 14 مليار دولار، من أصل ناتج لا يتجاوز 21.5 مليار. وعليه، فان إعادة هيكلة المصارف، والإبقاء على الجديرة بالاستمرار والثقة، هو المدخل الوحيد للخروج من "الكاش". وكل ما يتم فعله هو بمثابة مسكنات، إلى حين القضاء على الألم نهائياً.
يرجى مشاركة تعليقاتكم عبر البريد الإلكتروني:
[email protected]