فيما يتخذ موضوع الاعتراف بالدولة الفلسطينية زخماً غير مسبوق، جاء القرار الأميركي بمنع تأشيرات الدخول لكبار المسؤولين في السلطة الفلسطينية بمن فيهم الرئيس محمود عباس، وإلغاء التأشيرات الحالية، لمنعهم من حضور الاجتماع المقبل للجمعية العامة للأمم المتحدة الشهر الحالي في نيويورك. وكأن الإدارة الأميركية، ومن ورائها إسرائيل تسعى إلى إفشال المؤتمر الذي ترأسه المملكة العربية السعودية وفرنسا في نيويورك لاحقاً هذا الشهر على هامش اجتماعات الأمم المتحدة لتسريع عملية الاعتراف بدولة فلسطين.

والقرار لا يُقتصَر على صدّ تلك الحملة المتراكمة ككرة الثلج، بل هو وفّر في الفترة الاخيرة الضوء الأخضر لرئيس الحكومة الاسرائيلية بنيامين نتنياهو، للمضي في مخططاته في غزة والضفة الغربية حيث تعقد إسرائيل العزم على استغلال الفرصة لإنزال العقاب بالسلطة الفلسطينية رغم نأي الأخيرة بنفسها عن "طوفان الأقصى" بل معارضتها له.

ومع هذا الموقف الأميركي الدراماتيكي من السلطة، يرفض عباس قرار منعه من حضور جلسات الجمعية العامة تحت شعار الأمن القومي الأميركي وعدم وفاء "منظمة التحرير الفلسطينية" والسلطة بخطط السلام، وباتّهامهما بالتطرُّف وبالاعتراف الأحادي بالدولة الفلسطينية وبالإرهاب وبالعنف.

بين خيارات الخارج.. ورام الله

وأمام عباس خيارات عدة على المدى القصير، أولها التمسك برفض قرار واشنطن التي يراها مُلزَمة حسب القانون الدولي وبناء على "اتفاقية المقر"، بالسماح لكل الوفود بالمجيء إلى هذا الصرح الأممي، والضغط عليها للتراجع.

ولا يبوح عباس بخطط بديلة حتى اللحظة، ويستعد لحملة دبلوماسية مقابلة ويعوّل على موقف دولي مضادّ كما على الحراك الشعبي المتصاعد عالمياً. ويستمدّ زخمه من موقف عربي مؤيد له، سعودي خصوصاً، ويخطط ليشرع بجولة أوروبية تشمل بريطانيا، وهي إحدى الدول التي أعلنت نيتها الاعتراف بفلسطين خلال أعمال الجمعية وسيكون لهذا الاعتراف صداه الكبير، لكون بريطانيا هي التي وفّرت تاريخياً الشرعية الأولى لإسرائيل عبر "وعد بلفور".

وتُعد فرنسا داعماً مهمّاً لخطوات عباس، وهي التي رفض رئيسها إيمانويل ماكرون القرار الأميركي، وشكلت نقطة تحوُّل كدولة كبرى على صعيد الاعتراف بالدولة الفلسطينية، إضافة إلى أنها مقبولة تاريخياً بالنسبة إلى العرب.

إسبانيا أيضاً أعلنت اعترافها بفلسطين في أيار الماضي. وموقفها هذا متقدّم في هذا الموضوع، وهي إحدى محطات الجولة السعودية، إضافة إلى بلجيكا حيث مقر الاتحاد الأوروبي في بروكسل، التي اعترفت بالدولة الفلسطينية، ما يتيح لعباس لقاء أوسعَ مع مسؤولي الاتحاد.

وتدخل في الجولة دول أوروبية كمالطا وأخرى خارج القارة العجوز، في حراك سياسي وشعبي لدعم الاعتراف المنشود.

وهناك سيناريو بديل في حال فشلت السلطة في ثني واشنطن عن التراجع، يتمثل في إيصال الصوت الفلسطيني وكلمة عباس نفسها، لكن عبر شخصية بديلة قد تكون المندوب الفلسطيني في الجمعية العامة رياض منصور، الذي يمثّل الرئيس الفلسطيني أيضا في الاجتماعات التي سيعقدها لحشد التأييد للدولة الفلسطينية في أروقة المؤتمر.

لكن هذا الخيار يُعَدّ تراجعاً من قبل عباس. لكن إذا أراد عباس يريد الخروج بمكانة كبيرة، يمكنه تصعيد الموقف عبر الأمم المتحدة نفسها والطلب من الأمين العام للأمم المتحدة انطونيو غوتيريش، نقلّ اجتماعات الدورة إلى مقر المنظمة الدولية في جنيف.

وهناك سابقة حصلت مع زعيم حركة "فتح" و"منظمة التحرير الفلسطينية" ياسر عرفات، العام 1988.

حينها أراد عرفات إعلان الاستقلال خلال جلسة في الأمم المتحدة فاصطدم برفض أميركي كرئيس للجنة التنفيذية للمنظمة تحت عنوان دعم الإرهاب. فما كان من الجمعية العامة سوى التصويت على نقل الجلسة إلى جنيف في سويسرا.

ثم هناك خيار مهمّ جداً بالنسبة إلى عباس قد يخرجه بطلاً من الناحية الرمزية، يتمثل في مخاطبة العالم مباشرة من مقرّه في المقاطعة الفلسطينية في رام الله، في مشهد درامي يدلّل على مظلوميته امام العالم، ويعزّز التعاطف مع الفلسطينيين.

على أن المنع الأميركي سيفرض واقعاً سياسياً وقانونياً وديبلوماسياً على المجموعة الدولية وسيجعل الدول المعنية أمام تحدي الإبراز الفعلي لتأييد الدولة الفلسطينية، خصوصاً بعد كل ما جرى في غزة وعجز المجتمع الدولي عن وقف المجازر.

وهناك أوراق أخرى سياسية وقانونية على المدى الأطول قد تحرج واشنطن، وإن لم تلغِ القرار الذي منع عباس ومن معه من دخول نيويورك الذي كان مقرَّراً في 19 من الشهر الحالي، وكل الخيارات ستعزز شرعية عباس فلسطينياً.

في كل الأحوال يرى عباس ومن معه أن قطار الدولة الفلسطينية لن يتوقف، لكن هاجسهم يتوجه نحو خطط حكومة بنيامين نتنياهو المدعومة أميركيا في الضفة الغربية.

وإذا كانت إسرائيل تتخبط في غزة كل يوم وتبدو أمام أفق مسدود، فإن الفلسطينيين كافة يعلمون تماماً أن الإسرائيليين لم يتخلوا عن مخطط التهجير سواء في غزة أو في الضفة.

وبينما تتجه الأنظار دوماً نحو القطاع، يبدو المخطط في الضفة جدياً، ولا خيار للفلسطينيين سوى مقاومته.

ويريد نتنياهو ومَن معه عزل القدس عن الضفة، وتقسيم الضفة قسمين، شمالي حيث جنين ونابلس ورام الله، وجنوبي حيث الخليل وبيت لحم..

ولم يعد ثمة أوهام فلسطينية عن قدوم شريك إسرائيلي مقبل مختلف جذرياً عن الحكومة الحالية. فالشعب الإسرائيلي يميل نحو اليمين، وبات اليوم أكثر تشدداً من السابق وسينتج حكومات تهدف إلى إنهاء القضية الفلسطينية والسيطرة على الفلسطينيين أمنياً وعسكرياً واقتصادياً حتى لو اختلف اللاحقون عن الحاليين في مخطط التهجير الجذري.

أما بالنسبة إلى السلطة الفلسطينية، فإن ما يحدث ليس سوى محطة على طريق معركتها الوجودية.

ففي المرحلة الأخيرة تهمّش دورها وضعفت شعبياً، وحوربت إسرائيلياً وأميركياً، وبات السند العربي ملاذها الأهم وعنوان الدولة قضيتها الكبرى التي تعزز شرعيتها.

وهي تراهن على الزمن وعلى التعاطف الدولي كما على الضغط الأميركي على إسرائيل لتعويم نفسها مجدداً في وجه شريك إسرائيلي مقبل يقبل بتسوية معها.