فجر الأربعاء، السابع من شهر آب عام 1963، كان قطار البريد الملكي البريطاني يشق طريقه من مدينة غلاسكو إلى لندن التي تبعد عنها نحو 650 كلم، محمّلاً بملايين الجنيهات النقدية المرسلة من البنوك. كل شيء كان هادئاً، لكن عند جسر صغير يُعرف باسم "بريدجوغ" في مقاطعة "باكينغهامشير"، كان 15 رجلاً يخطّطون لسرقة القطار الملكي البريطاني.

بذكاء وجرأة، أوقف اللصوص القطار بإشارة ضوئية مزيّفة، وما إن توقّفت العربات حتى قفزوا إلى الداخل وسيطروا على السائق والحراس. لم تُطلق رصاصة واحدة ولم يُسفك دم، بل كانت العملية سلسلة بخطوات مدروسة أشبه بمشهد من فيلم سينمائي. اللصوص لم يكونوا هواة، بل عصابة منظّمة يقودها "بروس رينولدز" البريطاني الأصل الذي ولِد عام 1931 واشتهر ببرودة أعصابه وذكائه في التخطيط.

في غضون دقائق، فتحوا العربة المخصّصة للبريد النقدي، وبدأوا في إنزال الأكياس المكدّسة بالجنيهات. كانت الحصيلة مذهلة... أكثر من 2.6 مليون جنيه إسترليني (ما يعادل اليوم نحو 50 مليون دولار). في ذلك الزمن كان هذا المبلغ يفوق أحلام أي عصابة محترفة. نقلت الغنيمة إلى مخبأ ريفي أُعّد مسبقاً وجلس بعدها رجال العصابة يعدّون النقود وسط نشوة الانتصار.

لكن النشوة لم تدم طويلاً، كما هي حال معظم الجرائم الكبرى التي يفضحها تفصيل صغير. ففي خضم نشوة النجاح، ارتكب اللصوص خطأً قاتلاً لم يخطر ببالهم قط. لقد ترك أحد أفراد العصابة بصماته على لعبة "مونوبولي" كانوا يتسلّون بها مستبدلين أوراقها الملوّنة بالأموال المسروقة وكأنها جزء من اللعبة.

تلك اللمسة الطائشة تحوّلت إلى الخيط الذهبي الذي قاد الشرطة الى هدفها، وبعد أيام قليلة فقط داهمت المخبأ لتضع حدّاً للأسطورة. وهكذا، بدأت سلسلة من الاعتقالات التي حوّلت عملية السطو من حكاية جريئة إلى أسطورة بريطانيّة لا تُنسى.

مع ذلك، لم تُغلق القصة تماماً، لقد تركت غموضاً يزيد من سحر الحكاية، فبعض أفراد العصابة تمكنوا من الفرار كـ "روني بيغز" الذي هرب إلى البرازيل وعاش هناك حياة أشبه بالأسطورة، متنقلاً بين الشواطئ والحانات، قبل أن يعود إلى بريطانيا بعد عقود ليواجه مصيره.

وعلى الرغم من القبض على معظم المشاركين، فإن جزءاً كبيراً من الأموال المسروقة لم يُسترّد أبداً.

الصحافة البريطانية أطلقت على الحادثة لقب "السطو العظيم"، وتحوّلت القصّة إلى مادة للأفلام والروايات لعقود. لم تكن عمليّة السطو هذه مجرّد عملية سرقة، بل رمزاً لجرأة جيل كامل من اللصوص الذين أثبتوا أن الذكاء قد يتفوق أحياناً على الحراسة المشدّدة.

واليوم، بعد أكثر من ستين عاماً، ما زالت سرقة القطار الملكي تحيا في ذاكرة بريطانيا كلحظة فارقة، حين توقّف قطار في فجر ذلك اليوم ليخلّد في التاريخ باسم عملية لم يشهد مثلها القرن العشرون.