لطالما شكلّ أيلول محطة "قواتية" سنوية ليس فقط وجدانية مع ما تختزنه من عبق عاطفي جرّاء العلاقة التفاعلية بين "القوات" وشهدائها بل أيضاً محطة سياسية يحّدد فيها رئيس "الحزب" سمير جعجع بوصلة الأيام الآتية والمسار الذي سينتهجه ويقتنصها فرصة للإقدام على خطوات تاريخية، كاعتذاره العلني 2008 باسمه وباسم المؤسسة السياسية التي يرأس والخط التاريخي الذي يمثّل عن أي إساءة صدرت بحق الآخرين.

جعجع بقوله يومها: "… عندما سقطت الدولة حاولنا إنقاذ ما يمكن إنقاذه بكل صدق والتزام وحمية وجلّ من لا يخطىء (…) بقلب متواضع صاف وبكل صدق وشفافية أمام الله والناس باسمي وباسم أجيال المقاومين جميعا شهداء وأحياء أتقدم باعتذار عميق صادق وكامل عن كل جرح او أذى أو خسارة أو ضرر غير مبرر تسببنا به…"، مدّ اليد لتنقية الذاكرة التي لم تتحقق رغم مرور 35 عاماً على انتهاء الحرب وما أحوجنا إليها اليوم.

كل الافرقاء شاخصون دوماً إلى المحطة الأيلولية لمعرفة المنحى "القواتي" عبر خطاب جعجع الذي يتضمن حكماً "الثابت والمتحرك". فالثابت هو الخطوط العامة المتعلقة بكيفية مقاربة منطق الدولة والميثاقية والشراكة وهوية لبنان ودوره والعوائق أمامها وفي طليعتها عدم حصر السلاح بيد الدولة وتالياً الانتهاء من فائض القوة الذي يمارسه "حزب الله" على باقي الشركاء بالوطن جرّاء عنجهية السلاح.

لطالما شكلّ أيلول محطة "قواتية" سنوية يحّدد فيها جعجع بوصلة الأيام الآتية والمسار الذي سينتهجه 

ثبات جعجع على هذا الطرح منذ الانقلاب على "الطائف" يدحض كل الادّعاءات الباطلة بإستغلال مفاعيل"7 أكتوبر" للانقضاض على "حزب الله". فـ"القوات" لم تهادن يوماً سلاحه أو تربط نزاعاً معه وتقاطعهما لم يتخطَ إطار العمل المؤسساتي في مجلسَي النواب والوزراء. خير دليل تحفظها في اتفاق الدوحة وفي البيانات الوزارية على ما هو مرتبط بـ"الثلث المعطل" وبـسلاح "الحزب".

أما المتحرك في خطابات جعجع، فهو مرتبط بطروحات أو استحقاقات آنية كمسألة الفراغ الرئاسي والتعطيل أو الانتخابات النيابية أو تفجير "4 آب" أو خطف وتصفية القيادي في "القوات" الياس الحصروني "الحنتوش" وكذلك القيادي بسكال سليمان أو غيرها.

هذا العام، وحين سيختلي جعجع بنفسه تمهيداً لإعداد خطابه السنوي، سيشعر بوطأة المتغيرات المفصلية التي شهدتها الأيام الـ 365 الأخيرة:

* وصول رئيس جمهورية ورئيس حكومة سياديَين ورَجُلَي دولة يتقاطع خطاب قَسم الأول والبيان الوزاري للثاني مع أدبيات "القوات" وقد تكون المرة الأولى منذ "الطائف" التي يحدث ذلك. صحيح أن إيقاعهيما قد لا يتماشيان دوماً، لكن جعجع يدرك أن في العمق الغاية واحدة وهي قيام دولة قانون ومؤسسات.

* خلع نظام آل الأسد البعثي الذي واجهه كمقاتل شرس في بلّا عام 1977 وقيادي صلب مع إسقاط "الاتفاق الثلاثي" (بري-جنبلاط-حبيقة برعاية سورية) عام 1986 وكسياسي اختار اعتقالاً دام 11 عاماً تحت "ثالث أرض" بعدما خُيِّرّ بين "السفر أو الوزارة أو النظارة".

* إنهيار "محور الممانعة" الذي يلفظ أنفاسه رغم المحاولات الإيرانية لإنعاشه. فالمدّ الإيراني في العالم العربي أضحى جزْراً لا مفرّ منه، وقَبْعُ أذرع طهران من جذورها قائم ولا رجوع عنه.

* تقهقر "حزب الله" خصوصاً بعد حرب "البيجر" وسقوط ذرائع وجوده عسكرياً وفي طليعتها نظرية "الردع".

* جلسة 5 آب التاريخية وقرار الحكومة غير المسبوق في الجلسة التي ترأسها رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون والقاضي بإنهاء سلاح "الحزب" وحصر السلاح بيد الدولة وفق خطة واضحة يعمل على وضعها الجيش اللبناني وجدول زمني حتى نهاية العام. هذا القرار حظي بتأييد دولي منقطع النظير. فسلاح "الحزب" بنظر الدول كـ"الرَصَد" الذي يحول دون دعمهم الفعلي للبنان للخروج من مستنقع الانهيار والسير نحو الاستقرار والنمو والازدهار. أما جلسة 5 أيلول فلن تعدو بنظر "القوات" أكثر من بلورة الخطوات التطبيقية لأن "ما كتب قد كتب". كذلك، تهويل "الثنائي" - وآخره عبر كلمة الرئيس نبيه بري في ذكرى الإمام الصدر ومحاولة الانقلاب على مضامين جلسة 5 آب - لن يكتب له النجاح.

في أيلول هذا سيقف جعجع في معراب وينظر الى مسيرته منذ نصف قرن ليرى أن براعم طروحاته بدأت تزهر

في أيلول هذا سيقف جعجع في معراب وينظر الى مسيرته منذ نصف قرن ليرى أن براعم طروحاته بدأت تزهر. فحلف الأقليات الذي رفض ركوب قطاره ودفع الثمن غالياً، تبخّر. الجشع السوري التاريخي بلبنان واعتباره خطأ تاريخياً، اضمحل. وللمرّة الأولى يطلق حاكم سوريا مواقف تقّر باستقلالية لبنان وسيادته وتطالب بعلاقات ندية من دولة إلى دولة. السطوة الإيرانية في لبنان عبر "الحزب" تتقهقر لمصلحة منطق الدولة. سلاح "الحزب" المصوّب على روح الميثاقية والهوية اللبنانية يترنحّ وسقوطه أضحى حتمياً ومسألة وقت ليس بطويل.

في التفاصيل الصغيرة، اشترطوا "طاولة حوار" لإنتخاب رئيس للجمهورية وعطّلوا المجلس وفشلوا. رفضوا طرح سلاح "الحزب" على طاولة الحكومة ووضع جدول زمني لإنهائه كما طالبت "القوات" وفشلوا. أصرّوا على تكريس إعطائهم إيران امتيازات على حساب السيادة وفشلوا، فها هو سفيرها يُستدعى الى وزارة الخارجية ويتم التعاطي معها وفق منطق الندية لا التبعية. وضعوا خطوط حمراء لحماية سلاح المخيمات الفلسطينية وها هي طلائع إنهائه تلوح مع بدء تسليم بعض منه.

ربما سيتوجّه جعجع الأحد مجدّداً لـ"حزب الله" ويكرّر ما قاله في أيلول 2024: "سلاحك لا يحمي الطائفة الشيعية، كما أنّ أيّ سلاحٍ لا يحمي طائفة في لبنان. إن كان هناك من حماية فهي حتماً في كنف الدولة الفعليّة العادلة القادرة (...) الغد لنا جميعاً كلبنانيين، فقدْ آن الأوان أنْ نخرج معاً من الماضي لكي نبني المستقبل بناءً يجسّد طموحات كلّ مكوّنٍ منّا بعيداً من منطق الهواجس الظرفيّة او الوجودية. إنّ ملاقاة بعضنا البعض في الوطن من شأنها تبديد كلّ المخاوف وإسقاط كلّ الرهانات الخارجية من أيّ جهةٍ أتتْ ...". ولكن هل من يتجاوب؟