كان مفاجئا لكثيرين الإعلان التركي الأخير عن قطع العلاقات التجارية مع إسرائيل ومنع السفن من دخول الموانئ الإسرائيلية وإغلاق المجال الجوي أمام طائرات الدولة العبرية، لكن هذا الإعلان ليس قراراً جديداً، الأمر الذي يطرح التساؤلات حول أسباب توقيته اليوم.
أوّلاً من ناحية الشكل، جاء الإعلان على لسان وزير الخارجية هاكان فيدان، خلال كلمة في جلسة طارئة للبرلمان التركي لمناقشة الأوضاع في قطاع غزة، دعت إليها أحزاب المعارضة.
وكان ضرورياً لحكّام تركيا توجيه رسالة مزدوجة، داخلية وخارجية.
على الصعيد المحلّيّ كان لا بد من مواجهة مزايدة خصومهم عبر تعداد الإجراءات التي قامت بها الحكومة التركية طوال الفترة الماضية ضد إسرائيل. لكنّ وقف الرحلات الجوية المباشرة بين تركيا وإسرائيل قائم منذ بداية الحرب على غزة تقريباً، والرحلات المتبادلة تتم عبر ترانزيت إما في عمّان أو لارنكا أو أثينا أو غيرها من المدن.
وكانت أنقرة أعلنت قطع العلاقات التجارية مع إسرائيل منذ أيار من العام الماضي، وقد بلغ حجمها تسعة مليارات ونصف المليار دولار. وكذلك فإن إعلان وقف الرحلات الجوية، كان قد تم العام الماضي من طرف السلطات التركية والخطوط الجوية التركية..
الرسالة الخارجية، وهي الأهم وتكمل تلك الداخلية، نابعة من الشعور الفعلي بالتهديد من التوسّع الإسرائيلي انطلاقا من جنوبي سوريا والذي ترى فيه أنقرة تهديداً لأمنها القومي.
فبعدما مثّلت الدولة العبرية في السابق شريكاً خصماً في التوازنات الدقيقة للمنطقة، تحوّلت اليوم إلى تهديد متصاعد عابر للحدود القائمة منذ أكثر من 100 عام، لتشكّل خطراً على الوحدة الترابية لدول الشرق الأوسط والوحدة الإقليمية لتركيا نفسها ذات الفسيفساء العرقية والقومية والطائفية.
وفي أحسن الأحوال سيكون من شأن هذا التوسع إقامة حزام محاصر لتركيا يهمّشها بعدما توسَّع دورُها أخيراً إلى خارج الشرق الأوسط نحو آسيا وإفريقيا. وحتى إذا استقر الأمر على هذا المنوال، فإنه سيفتح الباب أمام أقاليم سورية في الشرق الكردي والغرب العلوي ناهيك عن الجنوب حيث الأقلية الدرزية، ما سيهدّد تركيا مباشرة على المدى الطويل.
صحيح أن الولايات المتحدة لم تعطِ الضوء الأخضر لمتغيّرات دراماتيكية من هذا النوع، لكنّ خروج الأمور عن السيطرة وسط الفراغ قد يضطر واشنطن للتعامل مع الأمر الواقع. وأحدث مثال على ذلك كان فرض الهيمنة الإسرائيلية الاخيرة على الجنوب السوري بعد توجيه ضربة مباشرة عسكرية معنوية للحكومة السورية.
وبذلك تحاول أنقرة فرض معادلة ردع في مواجهة حكومة بنيامين نتنياهو، وهي التي تراهن، كما كثيرون، على انتهاء نتنياهو ومن معه بعد سقوطهم في الانتخابات المقبلة.
وسط كل ذلك يُطرح السؤال عن مدى صمود هذا التوازن الدقيق بين الردع وعدم التورط في نزاع عسكري.
فمن ناحية أنقرة، هي وقفت وراء كل المتغيرات السورية الأخيرة وهي التي تقف اليوم خلف تفاصيل الحياة السياسية والعسكرية والأمنية وبعض الجوانب الاقتصادية في سوريا.
ويتوجس الإسرائيليون من الهوية الجيوسياسية لتركيا التوسعية، فهي أوروبية، وقوة كبرى في الشرق الأوسط، ومركز بحري في البحر الأبيض المتوسط، وهي أيضا دولة سنّيّة تاريخياً ذات أصول إخوانية لها امتداداتها في آسيا الوسطى.
ولعلّ تركيا هي التي تحكم من وراء الستارة في سوريا، وقد بدأت بمشروع طويل الأمد في بعض أنحاء سوريا، وتركت بصمتها العسكرية التي تعززها باطّراد عبر قواعد وعمليات موسّعة قريبة من مناطق النفوذ الإسرائيلي.
وتركيا هي الحاضن التاريخي لحركة "حماس" وتؤيد مقاومتها في وجه الاحتلال الإسرائيلي. في مقابل دعم إسرائيلي للكُرد في سوريا الذين ترى فيهم أنقرة تهديداً داعماً لإخوانهم في اراضيها الذين لن يتوانوا عن هدفهم في إقامة دولة كردية تقسم تركيا.
أنقرة ودمشق تعززان صلاتهما العسكرية
وفي الفترة الأخيرة، خطت أنقرة خطوة جديدة متقدمة في سوريا.
فقد عززت أنقرة ودمشق صلاتهما العسكرية عبر مذكرة تفاهم جديدة تلحظ فرعاً للمعلومات في وزارة الداخلية متصلاً بأنقرة ومخصصاً لضبط أي خلل داخلي قد يؤدي إلى هز الاستقرار. كما التزمت تركيا بتحديث القوات السورية من خلال برامج التدريب واللوجستيات ومكافحة الإرهاب ("داعش" مثلا).
وهذا أثار قلق إسرائيل أكثر كونه يشمل مناطق نفوذها في الجنوب كما في القنيطرة والسويداء، حيث يتم تجنيد مناصرين للحكومة وتتم مراقبة المشروع الإسرائيلي والتحضير لمواجهته.
ومع المزيد من التغلغل في الهياكل السورية، تريد تركيا تثبيت الحكم السوري ومواجهة أي حكم كردي أو درزي انفصالي وأي مشروع إسرائيلي توسُّعي، ترى مؤشراتها واضحة. وباتت تركيا من القوة في سوريا بحيث أنها باتت في موقع يتيح لها السماح لدولة كبرى على المسرح العالمي مثل روسيا، بممارسة بعض الدور على الساحة السورية، وهو ما كان ممنوعاً سابقاً، بعد ان ضغطت أنقرة على دمشق كون موسكو كانت احدى الدعائم الكبرى للنظام السابق. وطبعا هذا لا يروق لواشنطن.
رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو ومن معه على دراية بكل ذلك وعلى علم بهوية حكام دمشق اليوم، ولذلك فهم يوجهون لهم الضربات تلو الاخرى حتى بات الجيش السوري اشلاء جيش.
والمفارقة انه بينما يتلقى السوريون الضربات، يغض الأتراك النظر. فهم يتجنبون اية مواجهة تشتت مخططهم وآخر ما يتمنونه مواجهة مع خصم شرس لا يمكن التنبؤ بأفعاله.
كذلك الأمر بالنسبة إلى الإسرائيليين الذين يتفادون صداماً مع عضو في حلف "الناتو"، مع فارق أن الإسرائيليين باتوا اكثر جرأة بعد السابع من أكتوبر وبالتالي أكثر خطراً.
وإذا كان نتنياهو يتصرف بصفته زعيما لـ"الدولة الكبرى" المأمولة في وجه "تركيا الجديدة" التي تعمل على إعادة هيبتها التاريخية وتريد التوسع بناء على المتغيرات الطائفية، فإن إسرائيل، من السابع من أكتوبر فصاعدا، باتت لا تعير أهمية للحدود الترابية التي تحاصر مخططاتها. وأصبحت تفرض الكثير من سياساتها الإقليمية، كما في سوريا، على الأميركيين أنفسهم.
لكن من المرجَّح أن تبقى الأمور دون الخطوط الحمراء، فالواقعية السياسية والجغرافية والعسكرية، والشراكة الاستراتيجية للدولتين مع أميركا، وووجود تحديات إقليمية أخرى بالنسبة للدولتين مثل إيران لإسرائيل التي تقف دوما وراء تصعيد الأمور، تعد عوامل مهمّة في منع تفاقم الأمور.