في باريس، المدينة التي لطالما أنجبت قصصاً عن الفن والجمال، وُلدت أيضاً حكاية تحمل في طيّاتها الألم والمغامرة والسرقة، إنها قصّة لصّ محترف عُرف لاحقاً بـ "الرجل العنكبوت الباريسي"، لكنه قبل ذلك كان طفلاً لم يعرف معنى العائلة، فأبوه لم يهتم به يوماً، وأمّه كانت غارقة في المرض بعد أن صدمتها سيارة لتتركه وحيداً، فوجد نفسه فجأة في حضن الحياة القاسية يواجه وحده برد الشوارع وجدران المؤسسات وبعض السرقات الخفيفة ليقتات منها، وكأن العالم كله قد تآمر عليه منذ اللحظة الأولى.
لكن جراحه لم تُطفئ شعلة التحدّي في داخله، بل على العكس، دفعه الألم إلى ابتكار طريقته الخاصة لمواجهة واقعه، فبدأ يتسلق الأشجار والجدران، كأن الارتفاع يُنسيه ثقل الأرض وقسوة القدر. شيئاً فشيئاً، تحوّل الى متسلّق ذو مهارة استثنائية، لم يكن بحاجة إلى حبال أو معدات، فكل ما كان يملكه هو قبضتين فولاذيتين وقلب لا يعرف الخوف، ووجد في باريس ملعباً مفتوحاً، عمارات شاهقة وبيوت فاخرة تلمع أنوارها وكأنها تدعوه إلى اختبار قدراته.
في البداية كان التسلّق مغامرة شخصيّة قبل أن يتّخذ منحى أكثر خطورة. فقد رأى أن مهارته الفريدة يمكن أن تفتح له أبواباً لا يصلها الآخرون. وبالفعل، بدأ سلسلة عمليات سرقة مدهشة في أحياء باريس الراقية، يتسلّق الطوابق العليا ويدخل من النوافذ ويخرج حاملاً ما خفّ وزنه وغلا ثمنه.
في قلب باريس، مدينة الأضواء والفن والتاريخ، لم تكن الجرائم دائماً تقليدية أو مألوفة، هناك ظهر رجل استثنائي قَلبَ معادلات الأمن رأساً على عقِب، وصار مادة دسمة للصحف والإعلام الفرنسي والعالمي. لم يكن يستعين بأسلحة أو رجال عصابات، بل امتلك سلاحاً من نوع آخر... رشاقة جسد استثنائية وقدرة خارقة على تسلّق الجدران، جعلته يُلقَّب بـ "الرجل العنكبوت الباريسي".
بدأت القصة تتكشف في ثمانينيات القرن الماضي عندما بدأت الشرطة تسجّل عمليات سرقة غريبة في شقق تقع في الطوابق العليا لمبانٍ سكنية فاخرة.
كان الضحايا يستيقظون ليجدوا مجوهراتهم وأموالهم تبخّرت من دون أي أثر لخلعٍ في الأبواب أو كسر في النوافذ. الأسلوب كان يوحي بأن المنفّذ لم يدخل من الطرق المعتادة، بل تسلّق الجدران كما لو كان بطلاً خارقاً خرج من صفحات القصصّ المصوّرة.
الشرطة، التي وقفت في البداية حائرة أمام هذه السرقات شبه المستحيلة، لم تلبث أن اكتشفت اسماً أصبح لاحقاً مرادفاً للدهاء والإثارة، "آلان روبير"، الرجل الذي اشتهر بتسلّق الأبنية المرتفعة كما لو كان يمشي على أرضٍ مسطّحة، وهذا ما جعل "الرجل العنكبوت" مادة أسطورية في الإعلام الفرنسي، ليس فقط لشجاعته، بل أيضاً لذكائه في اختيار أهدافه. فقد كان يستهدف الشقق الفاخرة في أحياء راقية، موقناً أن ما بداخلها يستحق المخاطرة. كان يترك خلفه بصمة واحدة لا تخطئها الشرطة، وهي دهشة كاملة من أن أحداً استطاع تحدي قوانين الطبيعة والفيزياء لينفّذ سرقة بتلك الطريقة.
لكن الشعب الذي أحبّ قصصه المشوّقة ورآه رمزاً للحرية والتحدًي يعيش على حافة الخطر ليكتب فصول حياته بين السماء والأرض، اعتبره البعض مجرّد لصّ محترف يستحق العقاب.
حتى اليوم، ما زالت قصته تتردّد في باريس وكأنها حكاية خرافيّة حديثة عن رجل جعل من الجدران سلّماً إلى المغامرة، ومن السرقة فناً محفوفاً بالإثارة.
انها حكاية تطرح سؤالاً أبعد من مجرّد جريمة، هل كان "الرجل العنكبوت" سارقاً محترفاً، أم فناناً استثنائياً ضلّ طريقه في مدينة تغري الجميع، أم أن قسوة الحياة بكل ندوبها وخيباتها دفعته إلى التحوّل إلى ذلك الظلّ المتمرّد الذي أصبح عليه؟