لا تزال المعالجات الرسميّة لمعظم الملفات الحساسة تتبع نهجاً سطحياً لا يلامس جوهر الأزمة. يستجيب المسؤولون شكلياً للضغوط الدولية بإقرار البنود الإصلاحية، وتفخيخها من الباطن بشتى مسببات التعطيل. وإذا تقصدنا "الوقاحة" في المقاربة، يمكننا الذهاب بعيداَ في "تحميل ذمتنا"، واتهام المسؤولين باحتراف هذا النهج التعطيلي منذ مؤتمرات باريس، مروراً بكل الاتفاقيات الاصلاحية الموقعة بعده، وصولاً إلى شروط إخراج لبنان من اللائحة الرمادية لتبييض الأموال ومكافحة الإرهاب.

بعد أشهر طويلة من وضع مجموعة العمل المالي الأسس والمعايير التي على لبنان اتّباعها للخروج من اللائحة الرمادية، أقرت الحكومة أخيراً بعض التعديلات على القانون 44 الصادر في العام 2015، المتعلق بمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب. التعديلات طُرحها على مجلس الوزراء وزير المالية بالاستناد إلى مشروع القانون الذي أعدّته لجنة التحقيق الخاصة. وقد طالت التعديلات بشكل أساسي قيمة الغرامات المفروضة على المخالفين للنظام العام، وعلى المتهمين بتبييض الأموال. ولكن يبدو أن التعديلات بقيت قاصرة عن وضع الشروط التطبيقية التي تسمح للمهن الحرة المنظمة بقانون، كالكتاب العدل والمحامين والمحاسبين المجازين من تطبيق قانون مكافحة تبييض الأموال في حال تعديله من جديد. تتنافى هذه الاستحالة مع إنجاز "اللجنة الاستشارية لتنفيذ إجراءات خطة عمل مجموعة العمل المالي"، تقريرها حول الإجراءات التصحيحية المطلوبة من قبل وزارة العدل، مضافاً إليها مشروع قانون واضح وصريح في هذا الصدد.

قد يعرّض هذا المشهد لبنان إلى تصنيفه من ضمن الدول غير المتعاونة في التقرير المقبل وإنزاله إلى اللائحة السوداء إن لم يعاجل المعنيون إلى الأخذ بهذه التوصيات أو سواها وتطبيقها في أسرع وقت ممكن. يجب حالاً معالجة النواقص المحددة، ولا سيما تلك المرتبطة بالأجهزة القضائيَّة والتعاون الدولي وقطاع الأعمال والمهن غير المالية المحددة، وعلى رأسها كتّاب العدل والمحامين والمحاسبين المجازين والشركات.

ما الذي تغير؟

في التعديلات الأخيرة أقرّ مجلس الوزراء أمرين أساسيين وهما:

-نزع ذريعة السرية المهنية عن المحامين.

-إعطاء صلاحية لوزارة العدل بما يختص بالكتاب العدل، ولنقابتي المحامين في بيروت وطرابلس ونقابة خبراء المحاسبة المجازين أن يحددوا فرض الغرامات بألا تتعدى 20 ضعفاً الحد الأدنى للأجور.

مرة جديدة ألقي على عاتق وزارة العدل، في ما يخص الكتاب العدل، ونقابتي المحامين في بيروت وطرابلس ونقابة خبراء المحاسبة المجازين تحديد المخالفات التنظيمية وقيمة العقوبات على أعضائها.

ما الذي عُدِّل إذاً؟

ما تم تعديله هو تحديد قيمة الغرامة التنظيمية بـ 20 ضعف الحد الادنى للأجور، وذلك على الرغم من تراجع الحد الأدنى للأجور من 450 دولاراً إلى حدود 312 دولار. وعليه بلغت قيمة الغرامة، 6240 دولاراً. و"هذا التقدير الجديد لقيمة الغرامة ناتج عن الأخذ في الاعتبار الوضع المالي لسائر المعنيين بهذه الغرامة من غير المصارف والمؤسسات المالية، أي من المؤسسات غير المالية والكتاب العدل والمحامين والمحاسبين المجازين، وتراجع مداخيلهم بعد الانهيار"، بحسب المحامي كريم ضاهر. "ومع هذا بقيت القيمة كبيرة في ظل هذه الظروف الاقتصادية التي يمر بها لبنان، ورادعة".

أما الغرامة الثانية لمخالفة أحكام القانون وقيمتها 100 مليون ليرة فلم تعدَّل وهي انخفضت بالتالي من 65 ألف دولار كما في القانون الماضي إلى حدود 1000 دولار. ويرجّح ضاهر أن تكون سقطت سهواً، "لكون غرامة عدم الامتثال للأنظمة أعلى بأضعاف من غرامة عدم الامتثال للقانون وهذا ما هو غير منطقي. وعليه يتوجب على مجلس النواب الانتباه إلى هذا التفصيل، وإصلاحه بالتناسب عند مناقشة التعديلات الأخيرة للحكومة".

من المرتقب أن تُجري "مجموعة العمل المالي" تقييماً شاملاً في تشرين الأول 2025 لما تم إنجازه. أما التقرير النهائي سيصدر في ربيع 2026، وقد يُحدِّد مصير لبنان، وما إذا كان سيبقى في اللائحة الرمادية، أو يخرج منها، أو يدرج على اللائحة السوداء. وغني عن القول إن تصنيف لبنان ضمن الدول غير المتعاونة سيحمل تبعات اقتصادية ومالية ودبلوماسية قاسية وخطيرة على لبنان.