كيف تتصرف الكيانات الاقتصادية، سواء كانت شركات أو دولاً، عندما تواجه أزمة مالية؟ سؤالٌ توجهت به إلى chatgpt، فأتى الرد على الشكل التالي: "إدارة الفرص الضائعة والعطلات غير الضرورية، تُعَدّ أحد الأساليب المهمة التي تعتمدها الكيانات الاقتصادية لزيادة الإنتاجية". وتابع: "قد تُقلص الدول العطلات الرسمية، أو تدمجها لتقليل الانعكاسات السلبية على الإنتاج القومي".

في مفارقة تثير الاستغراب والاستهجان، يستمر لبنان بضرب أبسط قواعد علم الاقتصاد، على صعيدَي الذكاء الاصطناعي والطبيعي، عرض الحائط. فهذا البلد الغارق في واحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية منذ منتصف القرن التاسع عشر، بحسب البنك الدولي، احتل أخيراً المرتبة 11 عالمياً من حيث عدد العطلات الرسمية. وذلك وفقًا لمجلتي World Population Review وCondé Nast Traveller، متجاهلاً ما يُعتبر من بديهيات رفع الإنتاجية وتحفيز النمو.

19 يوم عطلة رسمية

أحدث البيانات العالمية صنفت "بلد الأرزِ" من بين الدول التي لديها أعلى عدد من أيام العطلات الرسمية، بعد "بلاد الأرُزّ". إذ يُسجل في لبنان 19 يوم عطلة رسمية سنوياً. ما يضعه في المرتبة الثانية بعد نيبال والهند ضمن الترتيب العالمي.

رب قائل إن "الحياة ليست كلها عملاً" فـ "العمر بيخلص والشغل ما بيخلص"، وهذا صحيح نظرياً. إنما على أرض الواقع فإن التعطيل في لبنان لا يقف عند حدود العطلات الرسمية، إنما يتعداه إلى "تضييع ما بين 20 إلى 25 يوم من الانتاجية المفقودة بسبب ضعف البنية التحتية، من انقطاع متواصل للكهرباء، وبطء ملحوظ في الإنترنت والاتصالات، وتعثر النقل والأعمال اللوجستية"، يقول الباحث في الاقتصاد السياسي، وعميد كلية إدارة الأعمال في "الجامعة الاميركية للتكنولوجيا"، البروفسور بيار خوري، ما يرفع عدد العطلات في أيام العمل الفعلية إلى نحو 40 يوماً. يضاف إلى هذه الأيام الطويلة 104 أيام، عُطَل نهاية الأسبوع. فيكون مجموع العطل القسرية والطبيعية 144 يوماً، تشكل نحو 40 في المئة من عدد أيام العام.

تداعيات العطلات على الاقتصاد

صحيح أن العطلة لا تُوقف الإنتاج في كل القطاعات، إذ يستمر العمل في القطاع الزراعي والسياحي، وأحياناً كثيرة الصناعي والخدماتي، لكنها تشلّ كلياً الإدارة العامة والقطاع المالي وسلاسل الإنتاج، التي تعتمد على الدوامات الرسمية، وتعطل مختلف مرافق الدولة، باستثناء المعابر الحدودية من مرفأ ومطار وحدود برية، فيتوقف إنجاز المعاملات والمشاريع. وعليه يقدّر البروفسور خوري أن "كل يوم عمل مفقود في القطاعات النظامية ينعكس خسارة بنسبة 0.2 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي في بيئة انتاجية ضعيفة". وإذا افترضنا أن الناتج المحلي الإجمالي محدد بحسب التقديرات الرسمية بـ 28 مليار دولار، فإن كل يوم عطلة يخسر الاقتصاد خمسة ملايين و600 ألف دولار، وبمجموع سنوي قد يصل إلى ربع مليار دولار، إذا احتسبنا العطلات في أيام العمل الفعلية. أما إذا أضفنا إليها عطلات نهاية الأسبوع فإن الخسارة قد تصل إلى المليار دولار.

في الوقت الذي لا يبالي فيه لبنان صاحب الاقتصاد المنهار بأيام التعطيل الرسمية وغير الرسمية، نرى الدول المتقدمة ذات الاقتصاديات الحديدية، تنتهج نهجاً مختلفاً كلياً؛ إن لم يكن معاكساً. ففي الولايات المتحدة لا تتجاوز أيام العطلات 12 يوماً، فيما تنخفض إلى ثمانية أيام في انكلترا، وسبعة أيام في سويسرا. وذلك على الرغم من استفادة هذه الدول من القدرة الإنتاجية القصوى لأيام العمل الفعلية بسبب تطور البنى التحتية وتراجع كلفتها.

الاستهتار مستمر

المسار الاستهتاري بأوقات العمل مستمر في لبنان، ولا يوجد لغاية اليوم أي دليل على إمكانية الحد من هذا النزيف. موظفو القطاع العام يضغطون لتقليل عدد أيام العمل الأسبوعية إلى أربعة أيام، بدلاً من خمسة أو حتى ستة أيام في بعض الحالات. وذلك بحجة انهيار قيمة رواتبهم، وتراجع تعويضاتهم، وفقدان مراكز عملهم إلى أبسط التجهيزات أحياناً، من أقلام وأوراق ومحارم. من دون أن نذكر الانقطاع المتكرر من الكهرباء وعدم وجود تكييف للهواء. والبعض منهم يتخلف عن الحضور إلى مركز عمله بأعذار وحجج، فيما تشهد إدارات أساسية من نافعة وعقاريات وغيرها اقفالات مستمرة تحت حجج وذرائع مختلفة، وهي تعاني بجميع الحالات من تراجع الانتاجية للموظف إلى الحد الادنى؛ إن لم يكن أدنى.

تكريس التعطيل في التربية

وزارة التربية بدورها أكدت هذا العام تخفيض أيام التدريس الفعلية. إذ أعلنت وزيرة التربية الدكتورة ريما كرامي أن الجدول التعليمي للعام الدراسي 2025-2026 سيقوم على أربعة أيام تدريسية أسبوعيا. ويأتي القرار في إطار سعي الوزارة إلى التكيف مع الضغوط المالية التي تعانيها، وامتصاص نقمة الأساتذة والسماح لهم في التخفيف من بدلات النقل، وإتاحة المجال أمامهم لممارسة عمل ثانٍ. إنما لهذه الأعطال كلفة اقتصادية هائلة لا تنعكس فقط على تراجع انتاجية موظفي القطاع العام وإدارته فحسب، وإنما تمتد إلى حصة الأجيال الصاعدة من امتلاك الكفايات التعليمية، وبالتالي رفع قيمة مشاركتها بالناتج. ويشير الباحث التربوي نعمه نعمه إلى أن "نسبة الفاقد التعليمي (الفجوة بين الكفايات التي تعلمها التلميذ ونبين ما اكتسبه وطبّقه من هذه الكفايات) وصلت خلال السنوات العشر الماضية إلى حدود 50 في المئة. فقد راكمت المدارس الرسمية عجزاً في أيام التدريس يصل إلى 880 يوماً، من أصل 1800 يوم". ولا يشذ مسار التربية الجديد، عن المسار السابق، إذ دأبت وزارة التربية والمركز التربوي للبحوث والإنماء على تخفيض أيام التدريس وتخفيف الدروس والأهداف المطلوبة لكلّ صفّ ولكلّ مادة تعليمية من أجل تخفيف الضغط عن الأساتذة وتجنّب من دفع بدلات لائقة.

هذا النزيف المالي من الصعب تعويضه "إن لم يتم وضع خطة لتحسين البنية التحتية ورفع الإنتاجية"، يؤكد خوري. أما إهماله فيحول الاقتصاد إلى ما يشبه السيارة الغارقة بالرمال: فكل محاولة خروج تؤدي إلى الغرق أكثر.