من بين صفحات التاريخ الملطّخة بالحروب، تبرز كلمة "الرايخ الثالث" كعلامة فارقة في مسار الجنون البشري. هي قوّة توهّمت المجد فأشعلت أعتى حربٍ شهدها العالم الحديث.
عام 1933، حين زحف "أدولف هتلر" إلى قمّة السلطة في ألمانيا، لم يكن يقدّم نفسه كسياسي عادي، بل كـ "مُخلّص تاريخي". ومنذ اللحظة الأولى، بدأ وزير دعايته "جوزف غوبلز" بصياغة سرديّة كبرى، بأن "هتلر" لا يؤسّس لنظامٍ جديدٍ، بل يُعيد إحياء إرث ضائع هو "الرايخ الثالث"، الاسم الذي سرعان ما تحوّل إلى شعار مقدّس بين أتباع النازية.
لكن ماذا تعني كلمة "رايخ" أصلاً، ولماذا سمّيَت بـ "الرايخ الثالث"؟
في اللغة الألمانية، "الرايخ" تعني "الإمبراطوريّة" أو "الدولة العظمى" التي تمتدّ فوق القوميّات وتجمع تحت رايتها شعباً موحّداً خلف زعيم قويّ. وقد اعتبر "هتلر" نفسه الوريث الشرعي للإمبراطوريات التي سبقت؟ وكان هذا الاسم خطّة عبقريّة لإحياء حلم إمبراطوريّة لا تموت.
لم يكن هتلر أوّل من استعمل هذا التعبير، بل أخذه من كتاب صدر عام 1923 للفيلسوف المحافظ "آرثر موهلر فان دن بروك" بعنوان "الرايخ الثالث"، الذي دعا فيه إلى ولادة إمبراطورية ألمانية جديدة تَحكمها روح قوميّة صارمة.
في محاولة لإضفاء الشرعية التاريخيّة على مشروعه، اعتبر "هتلر" نظامه استمراراً "للرايخ الأول" الذي مثّل الإمبراطورية الرومانية المقدّسة من العام 962 لغاية العام 1806، والتي أسسها "أوتو الأول"، وبقيت لأكثر من 800 عام مَظلةً أوروبية لقوة ألمانيّة روحيّة وعسكريّة، وكان شعارها "الإمبراطور باسم الله"، وكانت ترى نفسها وريثة لروما القديمة.
أما الرايخ الثاني، الذي نشأ بين العامين 1871 و1918، بعد توحيد ألمانيا على يد "أوتو فون بسمارك"، كانت ألمانيا في هذه المرحلة قوّة صناعيّة وعسكريّة صاعدة، لكنها سقطت بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى.
كان اسم "الرايخ الثالث" أكثر من مصطلح رسميّ، كان دعايةً وسلاحاً نفسياً جَماعياً، إذ كانت ألمانيا تعيش في ظلال هزيمة الحرب العالميّة الأولى مقهورةً ومزلولةً باتفاقية "فرساي"، مفكّكةً اقتصادياً واجتماعياً... وقد أصبح هذا الاسم جزءًا أساسياً من المعركة.
فجاءت هذه التسمية وكأنها نداء إلى الماضي المجيد، واستنهاض لهويّة قوميّة مدمّرة، تحمل حلماً يتجاوز الحاضر البائس نحو مستقبل امبراطوريّ يّلفّه العظمة والكرامة وإعادة هيبَة المانيا.
قرار هتلر كان واضحاً، "يجب على كلّ ألماني أن يشعر ويؤمن بأنه جزء من سلسلة تاريخية خارقة"، وأن "الرايخ الثالث" ليس مجرّد دولة، بل قدر مقدّس يُكمِل المسيرة ويحقّق النبوءة.
لكن الواقع كان مختلفاً تماماً، تحوّلت أوروبا إلى مسرحٍ للدم والنار، ومع سقوط برلين عام 1945، انهار "الرايخ الثالث" والتهمَ نفسه، وانهارت معه كل الأكاذيب والدعايات التي غذّته.
لم يعد الاسم رمزاً لمجدٍ أو عظمة، بل صارَ وصمَة على جبين التاريخ، وكأن التاريخ نفسه انتفض على هذه الكذبة وأسقطها بكل عنفوان، وأعاد كتابة نهايتها بدماء الملايين.
اليوم، حين نسمع كلمة "الرايخ الثالث"، لا نفكّر في قوّة أو مجد، بل في هشاشة العقول حين تنجرف خلف الزعيم الواحد. إن أخطر ما قد تواجهه البشرية هو حين يُختَزل الوطن في فرد، ويُستبدل الفكر بالانفعال، والمستقبل بالأساطير.
فلنتعظ ونتعلم من أخطاء الماضي... وإلّا سننهار في حفرة التاريخ.