لطالما شكّل شعار مكافحة التهريب الجمركي "قبلة" المنادين بالإصلاح في لبنان. كلما كان "كوز" تعزيز إيرادات الدولة من الرسوم والضرائب غير المباشرة "يدق" في "جرّة" جيوب المواطنين الفارغة، صرخ غلاة العدالة الاقتصادية، "واجمركاه".
الحديث عن المبالغ النقدية الكبيرة "الضائعة" في دهاليز المرافئ شيء، وإثباتها بالدلائل والأرقام شيء آخر كلياً. فالأرقام في علم الاقتصاد هي كـ "المياه بالنسبة للغطاس"، ولها قدرة كبيرة على كشف الحقائق بموضوعية بعيداً عن الافتراء أو الإدعاء.
العائدات الجمركية في العام 2024
في العام 2024 استوفت الخزينة رسوماً جمركية بقيمة 548 مليون دولار. الرقم يبدو للوهلة الاولى كبيراً، خصوصاً أنه يشكل نحو 17 في المئة من مجمل الواردات المقدرة في الموازنة بـ 3.4 مليار دولار. إلا أن مقارنة الرسوم الجمركية المستوفاة مع حجم الواردات تظهر الحجم الحقيقي للخلل. ففي العام 2024 استورد لبنان بضائع وسلعاً بقيمة 16 مليار و900 مليون دولار، ما يعني أن حصيلة الرسوم الجمركية تمثّل 3.3 % فقط من مجمل قيمة الواردات. وهذا الرقم منخفض بشكل فاضح. فهو يقل عن النسبة الادنى للرسوم الجمركية المحددة بـ 5 في المئة على الكثير من البضائع والسلع، والتي يمكن ان تصل على العديد من البضائع والسلع إلى حدود 30 في المئة.
أرقام 2025 تفضح سابقتها
دليل آخر على حجم التهريب الجمركي الكبير قدّمته أرقام الجمارك لهذا العام. ففي الأشهر الأربعة الأولى من العام 2025 ارتفعت عائدات الجمارك إلى 457 مليون دولار. أي أنه في أربعة أشهر فقط، حققنا عائدات توازي 84 % من مجمل العوائد المحققة طيلة الأشهر الاثني عشر من العام 2024.
وقياساً على متوسط الإيرادات الجمركية المحققة شهريا بقيمة 114 مليون دولار، من المتوقع ان تصل الإيرادات من الجمارك لهذا العام إلى 1.4 مليار دولار، بزيادة نسبتها 165 في المئة عن العام 2024. وبالمقارنة مع عام 2024، تُمثل هذه الزيادة حوالي 900 مليون دولار، في حين يُتوقع أن تزيد الواردات بمقدار ملياري دولار.
أسباب الزيادة في عائدات الجمارك
إذا استبعدنا ارتفاع الواردات بشكل ملحوظ كتفسير، فسنجد ثلاثة تفسيرات محتملة لارتفاع الإيرادات الجمركية لهذا العام بحسب دراسة من إعداد رئيس فريق الأبحاث الاقتصادي في بنك بلوم للاستثمار (Blominvest Bank) علي بلبل، منشورة على موقع المصرف، وهي:
- ارتفاع معدلات التعريفات الجمركية.
- تعرض البيانات للتحريف.
- تحسين تحصيل الرسوم الجمركية وانخفاض الفساد والتهريب.
و"لكن بما أن معدلات التعريفات الجمركية لم ترتفع في عام 2025، فإن التفسير الأول لا ينطبق"، بحسب الدراسة. "بالإضافة إلى ذلك، وبما أن بيانات الجمارك معروفة، إن وُجدت، بأنها تُقلل من الإبلاغ عنها بشكل ملحوظ، فإن ذلك يُلغي التفسير الثاني. وبالتالي، يبقى التفسير الثالث هو الإجابة الأكثر ترجيحاً، وهو بحد ذاته مفاجأة سارة ومُرحَّب بها للغاية"، إذ يُشير إلى أن إدارة المرافئ أصبحت أفضل وتنظيماً من ذي قبل، و"ربما يُعزى ذلك إلى الإجراءات التي اتخذتها الرئاسة، والحكومة الجديدة في هذا الصدد"، تضيف الدراسة. وتتوقع الدراسة أن "تتحسن إيرادات الجمارك مع الاستخدام المُرتقب للتقنيات المتطورة (الماسحات الضوئية الإلكترونية) في مرفأي بيروت وطرابلس.
الضريبة المسطحة هي الحل
مرة جديدة يبدو أن الرقم الذي يمكن تحقيقه هذا العام من العائدات الجمركية (1.4 مليار دولار) كبيراً، وقد يأخذه البعض كدليل على جدية مكافحة التهريب الجمركي. إلا انه بالقياس إلى معدل استيراد يتوقع أن يزيد ملياري دولار عن العام 2024، ويصل إلى حدود 19 مليار دولار، فإن متوسط الرسوم الجمركية (1.4 مليار دولار / 19 مليارا) سيكون 7.3 % فقط. وهذا الرقم أيضا منخفض قياسا إلى معدلات الرسوم الجمركية المفروضة داخليا وتلك المعمول بها خارجياً.
وللمقارنة فقط فإن الولايات المتحدة الأميركية فرضت تعريفات جمركية على أغلبية دول العالم بنسبة لا تقل عن 15 %. وفي حال اعتمد لبنان مثل هذه التعرفة، فان قيمة الرسوم الجمركية ستصل على كمية مستوردات بقيمة 19 مليار دولار، إلى نحو 3 مليارات دولار. وإذا سلّمنا جدلا بان هناك العديد من السلع والمواد الاولية والغذائية معفاة من الرسوم الجمركية فان رفع الرسوم الجمركية على السلع الفاخرة والسيارات الفارهة سيعوض الفرق ويرفد الخزينة بالمبالغ التي تحتاج لها للقيام بالمطلوب منها في شتى الميادين الاجتماعية الصحية والتربوية وصولا إلى التنموية.
ارتفاع متوسط العائدات الجمركية على البضائع المستوردة من 3.3 % إلى 7. 3 % وبقيمة تزيد عن المليار دولار قد يكون "مؤشراً على تحسّن الحوكمة بشكل عام"، بحسب دراسة "بلوم إنفست". و"لكن، بما أننا نتحدث عن لبنان، فربما لا ينبغي لنا أن نغامر بحظوظنا". بمعنى أن هناك دائما شكوكا بقدرة، بل بنيّة المسؤولين في مكافحة الفساد.
لئلا نبقى ندور في الحلقة المفرغة، ونتعرض لتقلّبات في عوائد الرسوم الجمركية، بناء على "الهبّات" الاصلاحية، قد يكون الحل باعتماد الضريبة المسطحة (flat tax) كحل علمي وعملي لمكافحة التهرب الضريبي وتعزيز الإيرادات في لبنان. فوضع رسم جمركي على كل البضائع المستوردة بنسبة تتراوح بين 5 و7.5 %، لا يؤمن إيرادات ثابتة وكبيرة للخزينة فحسب إنما:
- يحد من التهريب بشكل كبير، نظراً لأن كلفة السمسرات ودفع العمولات تصبح أعلى بكثير من الرسوم المفروضة.
- يرفع نسبة المخاطرة بضبط الشحنات المهربة واحتجازها ودفع الغرامات عليها، مقارنة مع النسب المعقولة الموضوعة.
- يبسّط الإجراءات، ولعل هذا هو العامل الاهم في "فلسفة" الضرائب والرسوم.
- يؤمن دخلاً ثابتا للخزينة يمكن البناء عليه في الخطط والمشاريع المستقبلية.
صحيح أن النتائج المحققة في الأشهر الأربعة الاولى من العام الحالي مشجعة، إلا انه لا يمكن البناء عليها بناء للعديد من الأسباب وفي طليعتها، عدم الانتظام في مكافحة الفساد.