ونحن نتحدث عن الذكاء الاصطناعي، ونكرّمه، أو نكرّم أنفسنا به، بإنشاء وزاره تحمل اسمه، وننظم المؤتمرات لجذب المستثمرين، ونُقر قانون إنشاء مناطق اقتصادية خاصة للصناعات التكنولوجية... هل خطر في بالنا أننا لا نملك الكهرباء. أو حتى أكثر من ذلك، هل هناك إدراك حسي وعملي أن لبنان يفتقد لـ "الأمن الطاقي". وهو ما يعني توفير إمدادات مستمرة وموثوقة من الطاقة، بأسعار معقولة؟
مناسبة طرح السؤال ترتبط بتقرير حديث منشور على "مدوّنة صندوق النقد الدولي"، (IMF Blog)، تحت عنوان "الذكاء الاصطناعي يحتاج إلى مزيد من إمدادات الكهرباء الوفيرة ليواصل دفع النمو الاقتصادي". فالتكنولوجيا المتعطشة للكهرباء تقتضي بحسب التقريرـ وجود سياسات:
- تُساعد على التوسع في إمدادات الكهرباء.
- تُحفّز المصادر البديلة.
- تُساعد على احتواء طفرات الأسعار.
نقص الكهرباء
هذه العناوين الثلاثة المرتبطة جوهرياً بتحقيق قفزات كمية ونوعية في التطور التكنولوجي، ما زالت مفقودة في لبنان.
من دون الغوص في التفاصيل، فان لبنان لم يشهد أي شكل من أشكال التوسع في إمدادات الكهرباء. بل العكس فان قدرة الانتاج تراجعت في السنوات الاخيرة بشكل دراماتيكي من حدود 1800 ميغاواط، وهي القدرة الفعلية لمعامل انتاج الطاقة، إلى حدود تتراوح بين 300 و700 ميغاواط في أحسن الاحوال نتيجة العديد من العوامل، مثل إيقاف معامل الانتاج القديمة على المازوت في الذوق والجية وبعلبك، وعدم توفر التمويل اللازم لصيانة وتشغيل معامل المولدات العكسية الجديدة، وارتفاع نسب الهدر، وتراجع القدرة الانتاجية للمعامل الكهرومائية بسبب نقص المياه، واقتصار الانتاج على معملي دير عمار والزهراني اللذين لا يعملان بكامل قوتهما الانتاجية.
فيما خص المصادر البديلة، فان الطفرة التي شهدها لبنان في تركيب أنظمة الكهرباء الفردية على الطاقة الشمسية بين العامين 2021 و2023، بقدرة انتاجية وصلت إلى حدود 1000 ميغاواط، خفتت كثيراً. وهي اساساً قامت على مبادرات فردية ناتجة عن الحاجة. والترخيص الحكومي لـ 11 شركة لإنتاج 180 ميغاواط من الطاقة المتجددة، لم يبصر النور منذ أكثر من 3 سنوات. كما ان قانون انتاج الطاقة المتجددة والموزعة الذي أقره البرلمان في العام 2023، لم توضع مراسيمه موضع التنفيذ لاسيما ان تطبيقه رُبط بوجود الهيئة الناظمة التي لم تنشأ بعد. يشرع هذا القانون تحت المادة 16 " اتفاقية شراء الطاقة"، عبر التعاقد بين الـمستهلك ومنتج الطاقة الـمتجدّدة، إذ يقوم بموجبه الـمستهلك بشراء الطاقة الكهربائية الـمُنتجة من أنظمة الطاقة الـمتجدّدة العائدة للـمنتج ضمن فترة زمنية محدّدة وبتعرفة محدّدة مسبقاً من منتج الطاقة الـمتجدّدة.
بالنسبة للأسعار، كلفة الطاقة في لبنان هي الأعلى في العالم، ومحددة بـ 27 سنتاً للكيلوواط/ ساعة، ولا يتم تخفيضها مع انخفاض سعر برميل النفط، لأنها وُضعت للتعويض عن الجهات التي لا تدفع الكهرباء، وهي كثيرة. بعبارات أخرى فإن التعرفة المرتفعة هي لتعويض الهدر غير الفني الذي يتجاوز 40 في المئة، وهناك تقديرات تشير إلى وصوله إلى 60 في المئة، وخصوصا بعد الحرب.
غياب الكهرباء يحد من التقدم التقني في لبنان
إزاء هذا الواقع فان لبنان يعجز عن استقطاب "مراكز البيانات" (data center) التي تعتزم أوروبا واميركا وضعها خارج الحدود، نظراً للضغط الذي تسببه على شبكات الكهرباء، يقول الباحث في الطاقة البديلة مارك أيوب. "فحفظ البيانات وتحليلها عبر الخوادم العملاقة (servers) لشركات مثل "مايكروسفت وغيرها الكثير"، تتطلب كميات هائلة من الكهرباء وبأسعار رخيصة، ولاسيما من بعد ظهور الذكاء الاصطناعي chat GPT. وقد وصل الامر بهذه الشركات للطلب من المستخدمين عدم الرد بكلمة "شكرا" عند سؤال البرنامج عن أي أمر. لكون "هذه الشكرا"، تتطلب استهلاك المزيد من البيانات وبالتالي الكهرباء". فلبنان مازال خارج السباق. أو بالأحرى، مؤهلاته المتواضعة لا تخوله دخول المنافسة بأي شكل من الاشكال" يؤكد أيوب.
للدلالة على أهمية الكهرباء بالنسبة للصناعات التكنولويجة الاحدث، يمكننا ان نرى أن "مراكز البيانات في العالم استهلكت كهرباء قدرها 500 تيراواط/ساعة في عام 2023"، (كل تيراواط يعادل مليار كيلواط)، حسب أحدث التقديرات عن سنة كاملة الصادرة عن منظمة البلدان المصدرة للنفط "أوبك". وتتوقع "أوبك" أن هذا المجموع، الذي بلغ ما يزيد على ضعف المستويات السنوية في الفترة من 2015–2019، يمكن أن يرتفع بمقدار ثلاثة أضعاف ويصل إلى 1500 تيراواط/ساعة بحلول عام 2030.
وكما يتبين من الرسم البياني المرفق بالتقرير المنشور على مدونة البنك الدولي، فان الكهرباء التي استخدمتها مراكز البيانات وحدها، والتي توازي بالفعل ما تستهلكه ألمانيا أو فرنسا، سوف تضاهي استهلاك الهند بحلول عام 2030، وهي ثالث أكبر بلدان العالم استخداما للكهرباء.
خطوات إصلاحية
عجز لبنان الواضح عن دخول سوق التكنولوجية الحديث كماً ونوعاً، لا يعني بأي شكل من الاشكال انتفاء حاجتنا الماسة إلى اصلاح قطاع الطاقة. فنقص الكهرباء ليس قدراً بحسب أيوب. والمطلوب ليس فقط زيادة التغذية وصولاً إلى 100 في المئة، إنما ايضاً تخفيض الاسعار. وهذا ما يبدو انه بعيد المنال في الأمدين القريب والمتوسط، نظراً لكون كل دراسات الملاءة المالية لمؤسسة كهرباء لبنان موضوعة على أساس التعرفة المعتمدة حالياً، وهي تعرفة مرتفعة جداً.
تقرير صندوق النقد يوجب على صناع السياسات والشركات العمل معاً لضمان الاستفادة الكاملة من إمكانات الذكاء الاصطناعي مع خفض التكاليف إلى أدنى حد. ومن شأن تنفيذ السياسات التي تحفز مصادر الطاقة المتعددة أن يعزز إمدادات الكهرباء، ويساعد على تخفيف طفرات الأسعار واحتواء الانبعاثات الكربونية. فهل يفعلها لبنان؟ أم تظل كل الوعود أقوالاً من دون أفعال؟