"التكافل الاجتماعي"، فلسفة بُني عليها الضمان الاجتماعي في لبنان مطلع ستينات القرن الماضي. آنذاك، تعاقد أصحاب العمل، والعمال، والدولة لتأسيس صندوق وطني، مهمته تغطية المقيمين على الأراضي اللبنانية صحياً واجتماعياً، عبر ثلاثة فروع هي: المرض والأمومة، التعويضات العائلية، وتعويضات نهاية الخدمة. اليوم، وبعد 62 عاماً، "انكسر" التكافل. إذ إن الذين بقيوا من ممثلي العمال وأصحاب العمل في مجلس إدارة الضمان، أقرّوا بالتآمر مع الدولة، صرف امتيازات "أبدية" لهم ولأفراد عائلاتهم، على حساب ثلث الشعب اللبناني.
بتاريخ 30 حزيران الماضي صدر عن مجلس إدارة الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي القرار رقم 1400. يمنح القرار رئيس وأعضاء مجلس الإدارة، أو من بقي منهم، وعائلاتهم تقديمات صحية بنسبة 100 في المئة، درجة أولى، على حساب الصندوق، مدى الحياة.
القرار يخالف المنطق والقوانين
القرار يحمل مخالفتين صارختين. فإن كان جائزاً اتخاذُ القرار بالتغطية الصحية الشاملة، فهي لا تكون لمدى الحياة من حيث الشكل، إنما تنتهي، مع انتهاء ولاية "المجلس". أما في المضمون، فإن مجلس إدارة الصندوق المؤلف اساساً، من 26 عضواً (10 ممثلين لأصحاب العمل، و10 ممثلين للعمال، و6 ممثلين للدولة) انتهت ولايته منذ العام 2007، وكان من المفترض بحسب القانون أن يعمَد إلى تصريف الأعمال إلى حين انتخاب مجلس إدارة جديد. وهذا ما لم يحصل. فـ"بناء على توصية وزير العمل السابق طراد حمادة بأن "المسؤولية استمرارية"، ما يعني تسيير المرفق العام، استمر مجلس الإدارة بعمله بشكل طبيعي لجهة أخذ القرارات المصيرية، وتعديل قوانين الضمان ومنها القرار الأخير". فتسلح المجلس بغياب الاعتراض القانوني، وتوفر الرضى السياسي. وعلى الرغم من التراجع الكبير بعدد الأعضاء، الذي انخفض حالياً إلى 15 عضواً بالاستقالة أو الوفاة، فان آلية التصويت التي تقوم على توفر النصف زائد واحد من كل فريق، أي 6 للعمال و6 لأرباب العمل و2 للدولة، ما مازالت قائمة. وهو ما يساعد على أخذ القرارات رغم الفراغ الكبير في مجلس الإدارة.
رفض بالجملة
قرار مجلس إدارة الضمان الاجتماعي أتى على "حساب المضمونين الفقراء الذين يُتركون لمصيرهم ويموتون على أبواب المستشفيات بسبب تقصير مجلس إدارة الضمان أولاً، وحرمانهم من أبسط حقوقهم في الطبابة والاستشفاء ثانياً". يقول رئيس الاتحاد الوطني لنقابات العمال والمستخدمين في لبنان كاسترو عبدالله. مطالباً وزارة العمل، بوقف تنفيذ القرار فوراً.
استنكار الاتحاد الوطني لنقابات العمال ترافق مع موجة رفض عمالية عارمة للقرار. "اتحاد نقابات عمال البناء والاخشاب"، اعتبر أن القرارَ جائرٌ وقد اتى على حساب المضمونين الفقراء الذين يُتركون لمصيرهم ويموتون على أبواب المستشفيات بسبب تقصير مجلس إدارة الضمان أولاً، وحرمانهم من أبسط حقوقهم في الطبابة والاستشفاء. "الاتحاد البترولي اللبناني"، عبّر عن قلقه العميق واستنكاره الشديد للقرار الذي يمثل تجاوزاً لمبادئ العدالة الاجتماعية والإنصاف، ويُعتبر انتهاكاً واضحاً لحقوق العمال الذين هم أساس تمويل الضمان الاجتماعي ومن يضمن استمرار خدماته. واستنكرت "نقابة عمال المخابز في بيروت وجبل لبنان" القرار، معتبرة إياه تعدياً صارخاً على العمال.
حتى إن أصواتاً رافضة للقرار خرجت من "الاتحاد العمالي العام"، الممثل الرسمي للعمال في مجلس إدارة الصندوق. واعتبرت مصادر من داخل الاتحاد العمالي العام، أن "أعضاء مجلس إدارة الضمان الاجتماعي ليسوا أحراراً في اتخاذ قرارات ذات أبعادٍ شخصية أو تصبُّ في مصالحَ ضيقةٍ، بل هم منتدبون لتمثيل مصالحَ فئات اجتماعية واسعة ومتنوعة. ولهذا السبب، كان من الضروري الرجوع إلى مؤسساتهم النقابية والمنتخبة قبل اتخاذ قرارات من هذا النوع. وخصوصاً في ما يتعلق بالعمال والمستخدمين الذين يعانون من تدني رواتبهم، ويُعَدّون الأكثر حاجة إلى دعم الضمان الصحي". مضيفة أن "إنصاف هذه الفئات يجب أن يشكل جوهر عمل مجلس الإدارة و أولويته القصوى.
المضمون يعاني
التغطية بنسبة 100 في المئة لأعضاء مجلس الإدارة تأتي في ظل تراجع التقديمات للمضمونين بشكل كبير. فمن أصل 2442 عملية جراحية، هناك 130 عملية فقط، عادت تغطيتها إلى ما كانت عليه قبل الانهيار أي بنسبة 90 في المئة. أما فيما يتعلق بتغطية كلفة الدواء، فإن ما عُمل به هو إرجاع 80 في المئة من سعر الدواء الأرخص ثمناً الذي يعود للعائلة الدوائية نفسها. وللمثال، فإن المضاد الحيوي، "كلافوكس" يملك نفس تركيبة "الاوغمونتين". لكن الأول سعره 325 ألف ليرة، في حين أن الثاني مسعر بحوالي 800 ألف ليرة. وعليه فان المريض يحصل على 80 في المئة من 325 ألف ليرة، سواء اختار الدواء الأول او الثاني أو أي نوع آخر ينتمي إلى نفس العائلة الدوائية أو "الجنريك". أما الأعمال الطبية والإقامة في المستشفى مازالت تغطيتها أدنى باربعة أضعاف مما كانت عليه قبل الازمة. ومازالت المستلزمات الطبية من براغي ودعامات وغيرها تحتسب على أساس سعر صرف 1500 ليرة. أما تعرفة الأطباء عن الأعمال الجراحية فما زالت مقيّمة على اساس 35 ألف ليرة فقط لـ"الوحدة الطبية" – "k"، في حين أن سعر الوحدة كان خمسة دولارات قبل العام 2020.
في العام 2024 صدر القانون الجديد للضمان الاجتماعي تحت الرقم 419. ويفرض القانون تعيين مجلس إدارة جديد للضمان ، بعد تخفيض عدد الأعضاء إلى 10 أعضاء، 4 لفريق العمال و4 لفريق أصحاب العمل و2 للدولة. على أن يكون التصويت بالنصف زائد واحد، وليس على أساس قطاعي كما كان سابقا. والمجلس الجديد الذي كان يفترض أن يعين بمهلة اقصاها 30 حزيران 2024، بقي حبراً على ورق بسبب الفراغ الرئاسي وعدم إمكانية صدوره بمرسوم موقع من رئيس الجمهورية. واليوم ومع الإسراع في تشكيل الهيئات والمجلس، من المتوقع أن يعيّن هذا المجلس خلال أسابيع قليلة. ولعل هذا الاستحقاق كان هو السبب الذي دفع مجلس إدارة الضمان أن "يمضي" مكافأةً لنفسه على مدى الحياة قبل أن "يمضي".