"لبنان يا أخضر حلو، عالأرض تاني ما إلو"، أصبح من أكثر البلدان استبدالاً على الصعيد السياحي. وذلك بعدما فقد دوره المصرفي، ولاحقاً التعليمي و الاستشفائي. وجهات كثيرة لم تكن حتى الأمس القريب مدرجة على قوائم وكالات السياحة والسفر، تحولت إلى الأكثر طلباً. ووجهات "أُشبعت" سياحياً، تطالب بإعادة توزيع فائض الزوار على غير مقاصد. ترليونات الدولارات من الأموال تدور سنوياً بين الفنادق، والمطاعم، والجبال، وأطلال الحضارات، والمعابد، والشواطئ، والوديان.. تتسابق الدول على التقاط ما أمكن منها. فورة سياحية بكل ما للكلمة من معنى، مازال لبنان يقبع خارجها. وإن قُدِّر له الانضمام إليها بالعقلية القديمة، فسترتدَُ سلبا عليه! فهل نضَبَ من بلاد الأرز "نفطُها" التاريخي؟

مجموعة من المؤشرات المحلية والخارجية دفعت إلى طرح مثل هذا السؤال الإشكالي. ففي الوقت الذي لم تتجاوز فيه أعداد السياح الوافدين إلى لبنان 238 ألف سائح، في الربع الأول من العام 2025، بمعدل إنفاق لا يتجاوز ربع مليون دولار، تمكّنت السعودية من تحقيق نمو قياسي في إنفاق الزوار القادمين في الفترة نفسها بنحو 13 مليار و200 مليون دولار. ومن اللافت كان تحقيق المملكة فائضاً كبيراً في بند السفر لميزان المدفوعات، يقدّر بنحو 7 مليارات و140 مليون دولار. وهو ما يعني أن السياح الأجانب أنفقوا في المملكة العربية السعودية، أكثر بكثير مما أنفقه السياح السعوديون في الخارج. ويُعتبر هذا المؤشر بالغ الأهمية على صعيد الماكرو – اقتصادي. إذ وفقاً لتقديرات "صندوق النقد العربي"، أن كل زيادة بواقع 1 في المئة من العائدات السياحية، تساهم في رفع النمو الاقتصادي للدول العربية بنحو 0.36 في المئة.

فقدان الدور السياحي

المقارنة بين المملكة العربية السعودية ولبنان على صعيد الإيرادات السياحية قد تكون "غير منصفة لصالح الأخير"، برأي المستشار في تطوير السياحة المستدامة في لبنان والمنطقة باسكال عبدالله، "نظراً للفارق الكبير في الموقع، المساحة والامكانيات". ومع ذلك، فإن الارقام التي يحققها لبنان تعتبر دليلاً قاطعاً، على فقدانه لدوره السياحي وموقعه على الصعيد العالمي". نسبة السياح القادمين إلى لبنان لا تشكل بحسب آخر الأرقام أكثر من 30 في المئة من مجمل أعداد الوافدين. وهذه النسبة تتشكل اساساً من المغتربين اللبنانيين والمتحدرين من أصول لبنانية بشكل أساسي. فيما تقل أعداد السياح العرب والأجانب بشكل بارز؛ وإن وجدوا، فهم "لا يشكلون كتلة سياحية تملك وزناً اقتصادياً"، بحسب عبدالله.

مراحل التطور السياحي في لبنان

يقسّم منظمو الرحلات السياحية إلى لبنان، الحقبات السياحية إلى ثلاثة أقسام:

- الأولى، امتدت من العام 1995 إلى 2006، وشهد لبنان خلالها فورة باستقطاب السياح.

- الثانية، بين 2006 و2019، شهدت طلعات ونزلات في استقطاب السياح، ولا سيما العرب منهم. وقد بدأت تتراجع القدرة على الاستقطاب بشكل لافت بعد العام 2011 على إثر اندلاع الاحداث في سوريا.

- الثالثة، من العام 2019 ولغاية اليوم، حيث أدت المشاكل الكثيرة التي تعرض لها لبنان من انهيار اقتصادي، مروراً بكورونا وانفجار المرفأ، وصولاً إلى الحرب الإسرائيلية، إلى تراجعات كبيرة بأعداد ونسبة إنفاق السياح.

إزاء هذا الواقع تراجعت نسبة مساهمة السياحة من الناتج بشكل خاص والقطاعات الخدماتية بشكل عام. وعلى الرغم من عدم وجود أرقام دقيقة فانه من المتوقع ان تكون تراجعت نسبة مساهمة السياحة عن 9.5 في المئة التي حققتها في العام 2018. فيما من المقدر ألا تكون القطاعات الخدماتية تساهم بأكثر من 20 في المئة من الناتج كما كانت سابقا. وعلى افتراض أن نسبة المساهمة لهذه القطاعات بقيت هي نفسها، فان العائد تراجع بالتوازي مع تراجع الناتج من حدود 54 مليار دولار في العام 2019، إلى ما بين 28 و32 ملياراً، راهناً.

السؤال المحوري، هل خسر لبنان موقعه السياحي إلى الأبد؟

المفارقة أنه في حال انتفاء أسباب إحجام السياح عن القدوم إلى لبنان، وعودة البلد إلى الاستقرار على مختلف الأصعدة السياسية والأمنية والاقتصادية، فإن "الوضع السياحي مقبل على تدهور أكبر، في ظل استمرار نفس العقلية القديمة"، يعتقد عبدالله. وذلك نتيجة افتقاد لبنان إلى البنى التحتية المطلوبة لمواكبة النشاط السياحي؛ بدءاً من مطار وحيد وصغير، مروراً بطرقات ضيقة وصغيرة وغياب وسائل النقل العامة والمواقف المخصصة لها (هذا ما نواجهه سنوياٌ في كفرذبيان في موسم التزلج على سبيل المثال)، وصولاً إلى عدد محدود جداً من الغرف الفندقية، (لا يتجاوز 20 ألف غرفة، بأحسن الحالات)، من دون أخذ أعداد بيوت الضيافة كثيرة الانتشار بالحسبان.

السياحة المتخصصة

"المطلوب التوجه إلى Niche Tourism أو السياحة المتخصصة"، يقول عبد الله، وهي نوع من السياحة تركز على تلبية احتياجات فئة معينة من السياح، بدلاً من استهداف شريحة واسعة، أو ما يعرف بالمصطلحات السياحية بـ Mass Tourism. وهذا بالفعل ما بدأت نواته بالظهور في لبنان من خلال "السياحة الريفية، وممارسة النشاطات في الطبيعة، والاختلاء في البيوت المستقلة وسط الخضار والطابع الثقافي والتاريخي للمناطق اللبنانية المتنوعة"، بحسب عبدلله. و"المطلوب توفير كل المناخات لنمو هذه النواة، لأنها مستقبل السياحة في لبنان، على غرار الكثير من البلدان، بدلاً من السياحة التقليدية".

أهمية هذا النوع من السياحة أنه لا يجذب سياح محددين فحسب، إنما يساعد على حماية الطبيعة وتقديم الدعم للمجتمعات المضيفة ويبعد أذى الاسمنت والتشوهات العمرانية من خلال المنتجعات الكبيرة. وهذا هو المطلوب لاستعادة النهوض بالقطاع السياحي في لبنان.