أخذت الحكومة على عاتقها عِدّة مهام هي بمثابة تحدّيات لحكومة لا يزيد عمرها عن الخمسة عشر اسبوعاً. فما بين تطبيق اتفاق وقف إطلاق النار وبنوده القاسية التي تُشكّل عقبة كبيرة أمام الإصلاحات وصولًا إلى تنفيذ الإصلاحات الإقتصادية ومرورًا بالتعيينات وقانون الإنتخاب الذي قدّ يُعطّل عملها بالكامل، استطاعت هذه الحكومة القيام بعدد من الأمور التي لم تستطع الحكومات السابقة القيام بها وعلى رأسها التعيينات التي وإن تدور حولها إنتقادات حول مدى الالتزام بالآلية التي وضعتها بنفسها، إلا أنها تُشكّل عنصرًا أساسيًا من عناصر الديمقراطية، عنيت بذلك تداول السلطة.
وبعيدًا عن الشق السياسي، وافتراضاً أن لا تعقيدات سياسية، يُطرح السؤال عن كيفية إستخدام الحكومة للسياسة المالية، ومصرف لبنان للسياسة النقدية لنقل الإقتصاد اللبناني من حالته الحالية إلى حالة يكون فيها النمو الاقتصادي سيّد الموقف مُعزّزًا باستثمارات داخلية وخارجية؟
ينبع التركيز على النمو الإقتصادي في هذا الإطار من مُنطلق أن النمو الاقتصادي هو جوهر أساسي في استقرار سعر الصرف وامتصاص الخسائر (على أنواعها) ودعم إيرادات الدولة من باب الضرائب على النشاط الإقتصادي... وبالتالي يشمل تحفيز النمو الاقتصادي – كما سيظهر لاحقًا في هذا المقال – كل الإصلاحات التي يُطالب بها المُجتمع الدولي من خلال صندوق النقد الدولي.
السياسة المالية
أظهرت الأزمة التي عصفت في لبنان منذ العام 2019 وحتى يومنا هذا عمق الخلّل في مالية الدولة وفقدان المصداقية إن من ناحية العجز المُزمن في مالية الدولية أو من ناحية مصداقيتها بالتعثر بدفع ديونها. وبما أن السياسة المالية تشمل الإنفاق العام وتحصيل الضرائب، لذا هناك ضرورة لأخذ عددٍ من التدابير:
- ضبط الإنفاق الحكومي وتوجيهه نحو القطاعات الداعمة للاقتصاد (صحّة، تربية، بنية تحتية) وهو ما يتطلّب إعادة هيكلة القطاع العام بشقّيه المؤسساتي والوظيفي. مؤسساتيًا، يتوجّب إلغاء المؤسسات المملوكة من الدولة والتي لا جدوى إقتصادية منها وعددها يفوق التسعين مؤسسة (تقرير لجنة المال والموازنة للعام 2019)، وخصخصة إدارة المؤسسات التي تُقدّم خدمات عامة من خلال الشراكة مع القطاع الخاص لما في ذلك من تحسين كفاءة هذه المؤسسات والخدمات المُقدّمة وخفض الكلفة على الخزينة العامة.
- توحيد سعر صرف الليرة اللبنانية نظرًا للتشوهات التي يخلقها وجود عدة أسعار صرف (هناك اليوم سعران لصرف الليرة)، وبالتالي قطع الطريق على أي إمكانية للـ Arbitrage على العملة الوطنية ( المراجحة) كما حصل مع الشيكات المصرفية والودائع. أيضًا هذا الأمر يؤدّي إلى تحسين الإيرادات الضريبية.
- إعادة النظر في النظام الضريبي غير العادل إجتماعيًا بحق المواطنين وغير العادل ماليًا بحقّ الحكومة. من هذا المُنطلق، يجب العمل على توسيع القاعدة الضريبية وجعلها تصاعدية وتحسين الجباية وتوسيعها لتطال الأصول غير المُستخدمة في الماكينة الاقتصادية.
- سنّ تشريعات (قرارات) تهدف إلى تحسين بيئة الأعمال وذلك من باب مُكافحة الفساد، التنظيم، الحد من البيروقراطية، الشراكة مع القطاع الخاص... كل هذا يؤدّي حكمًا إلى تشجيع الاستثمار وبالتالي النمو الاقتصادي.
السياسة النقدية
فيما يخصّ السياسة النقدية والتي هي من مهام المصرف المركزي حصريًا، والتي يجب أن تتكامل مع السياسة المالية، هناك عددٌ من الإجراءات الواجب إتخاذها:
- إستعادة الثقة بالليرة اللبنانية هو جوهر هذه الإجراءات، وهذا ما يتطلّب الإنتقال إلى سعر صرف مرنّ مرورًا بفترة انتقالية يكون فيها سعر الصرف موجّهاً مع تدخلات واضحة وشفافة من قبل المصرف المركزي في سوق القطع، بمواكبة الإصلاحات في المالية العامة نظرًا إلى تداعيات هذه الأخيرة على استقرار سعر الصرف خصوصًا في المرحلة الإنتقالية.
- إعتماد هدف السيطرة على التضخّم بدلًا من هدف ثبات الأسعار في السياسة النقدية، وهو ما يتطلّب الكثير من المُحاكاة الماكرو- اقتصادية للتنبؤ بدقّة بالمُتغيرات الماكرو- اقتصادية التي تؤثر على التضخّم. الجدير ذكره أنه على الرغم من دولرة الاقتصاد اللبناني، لا يزال التضخّم يُسجّل أرقامًا عالية مما يؤكّد على كلامنا.
- نحن من الذين يعتقدون أن قانون إعادة هيكلة القطاع المصرفي، يجب أن تبدأ من إقتراحات من مصرف لبنان وذلك نظرًا لدقّة الأرقام التي يمتلكها ونظرًا إلى الحاجة إلى معرفة تقنية عالية (موجودة في المصرف المركزي) ونظرًا إلى أن دور المركزي كما نصّ عليه قانون النقد والتسليف (الفقرة الثالثة من المادة 70)، هو إدارة هذا القطاع والمُحافظة عليه. ويتوجّب على المركزي طرح خطة تسمح باستعادة الملاءة لهذا القطاع وتصفية المصارف غير القادرة على الاستمرار مع أولوية الحفاظ على التزامات المصارف تجاه الودائع.
- نعتقد أيضًا أن قانون الكابيتال كنترول يجب أن يكون منبعه المصرف المركزي حيث أن هذا الأخير قادر على طرح صيغة تسمح بإدارة تدفق رؤوس الأموال وسدّ الثغرات القائمة خصوصًا خلال الفترة الإنتقالية.
- مما لا شكّ فيه أن المصرف المركزي أمام تحدٍ كبير وهو الحفاظ على المستوى الحالي من الاحتياطات من العملة الأجنبية وهو ما يُقوّض التوجّه لردّ قسم من الودائع من الإحتياطي الإلزامي (أموال المودعين في المصرف المركزي).
- إعتماد سياسة تواصل مع الأسواق على مثال المصارف المركزية الغربية والتي تنصّ على "قول ما سيتمّ فعله"، "فعل ما تمّ قوله"، والتذكير "بما تمّ قوله وما تمّ فعله". هذا هو جوهر الثقة والمصداقية.
التنسيق والتكامل بين السياستين
من المعروف، والمنصوص عليه في كل الأنظمة الإقتصادية الحرّة، أن هناك استقلالية المصرف المركزي. إلا أن هذا لا يعني أن السياسة النقدية تعمل في إطار مُنفصل عن السياسة المالية، بل هناك إلزامية التكامل بين السياستين بما يخدم مصلحة الاقتصاد وليس مصلحة القوى في السلطة. وبالتالي، نجاح تنفيذ الخطط والإجراءات مرهون بالتعاون والتنسيق بين السياستين بما يؤمّن استدامة الكيان الاقتصادي والمالي والنقدي (أنظر إلى الرسم البياني رقم 1).
رسم توضيحي 1: تحديد سعر صرف العملة رهينة التنسيق بين السياستين المالية والنقدية (مصدر: Wong et al., 2002).
وبالتالي يُمكن الوصول إلى خارطة طريق زمنية واضحة المعالم كتلك التي نقترحها في الرسم البياني رقم 2 والمبنية على الإجراءات الواردة في هذا المقال، حيث من الواضح أنه وفي أقلّ من خمس سنوات يُمكن الوصول إلى الإنتظام المالي، واستعادة ثقة الفضاء الاقتصادي والمالي، وتسجيل نسب نمو موازية لما كانت عليه في العشرية الأولى من هذا القرن. يبقى القول أن نجاح ما ورد أعلاه يتطلّب إرادة سياسية واضحة ورغبة في التنفيذ مما يفتح الباب للمساعدات الدولية، كما يتطلّب أن لا يكون هناك عراقيل سياسية مهما كان نوعها تأتي لتنسف الإرادة السياسية والرغبة في التنفيذ.
رسم توضيحي 2: إقتراح لخارطة طريقة زمنية للإصلاح في لبنان (مصدر: الكاتب)