مهما طالت الحرب الإسرائيلية على غزة واتخذت أشكالاً متعددة، فإن سؤال اليوم التالي فيها فلسطينياً يبقى مطروحاً بقوة. والمقصود هنا ماهية حكم القطاع بعد انتهاء الحرب التي أثبتت فيها حركة "حماس" ان لا حل من دونها، لكنها، في المقابل، لن تتمكن من العودة إلى ما قبل السابع من أكتوبر 2023، رغم كل التضحيات.
صحيح ان "طوفان الأقصى" أعاد القضية الفلسطينية الى ذاكرة العالم، لكن الصحيح ايضاً أن ما حصل من مآس حَمّل كثيرون في غزة وخارجها مسؤوليتَه لـ"حماس" نفسها في الأصل، ولتعنّتها في المفاوضات بعدها.
وبعد أن دفع الشعب الفلسطيني ثمناً لكل ما حصل، ووسط متغيرات إقليمية تراجعت معها قدرة المحور الداعم للحركة دراماتيكياً، وباتت "حماس" امام واقع جديد دفع الى نقاشات كبرى، بخاصة داخل الحركة في غزة حول اليوم التالي للحرب.
وهذا يعني أن سيناريو حكم القطاع، والاندماج في السلطة بات خياراً "حماسياً" جدياً، وفرضاً خارجياً.
والواقع أن الأمر ليس وليد اللحظة أو حتى وليد الحرب. الحركة أجرت مراجعاتها، كالكثير من الحركات الراديكالية في التاريخ، واقتربت مما قطعته حركة "فتح"، الحركة الأم للنضال الفلسطيني والأهم في "منظمة التحرير الفلسطينية"، في الثمانينيات عندما قدمت تنازلاتها الكبرى على صعيد القبول بالقرارات الدولية.
وبعدما وافقت "حماس" قبل سنوات على حل الدولتين حين كان المحور الداعم لها قويا، يبدو من الطبيعي أن تقبل اليوم، بعد كل ما جرى بتسوية تاريخية تشمل العلاقة مع الشريك الفلسطيني بعد اقتتال دامٍ في غزة نفسها و بمفاعيل تلك التسوية وما تقتضيه. وقد شاركت الحركة في الماضي في انتخابات منبثقة عن اتفاق أوسلو الذي كانت ولا تزال ترفضه. وكان ذلك يعني الانخراط في حكم جاء بعد اتفاق خياني بنظر "حماس" ومؤسسها التاريخي، الشيخ أحمد ياسين.
وإذا أضفنا ذلك إلى الإقرار بوجود دولة إسرائيل بعد وثيقة "حماس" للعام 2017، التي اتضح من خلالها القبول بحل جزئي للصراع، يمكن التوقع أن تقبل الحركة بالتزامات السلطة الفلسطينية التي يهدف جميع الكبار إلى توليتها حكم غزة في شكل أو في آخر.
وقد يتم التوصل الى شراكة بين السلطة الوطنية الفلسطينية، ورأس حربتها "فتح" بزعامة الرئيس محمود عباس "أبو مازن"، والفصائل خارج منظمة التحرير في "تحالف القوى الفلسطينية" مثل "حماس" و"حركة الجهاد الإسلامي"، عبر انخراطهما في المنظمة واستتباعاً في السلطة.
طبعاً هي رؤية طويلة الأمد ولن تتحقق قريباً، لكن إبعاد "حماس" هو مطلب عربي ودولي عام لإعادة إعمار غزة الذي لن يتحقق من دون انتقال تلك الحركة الى الصفوف الخلفية، وحتى الى الظل، بينما تشترك في بعض الحكم مواربة وربما تحت ستار جهة مهنية مستقلة كما قالت بموافقة أميركية.
ومن نقاط قوة "حماس"، التذمر الشعبي من الفوضى في غزة وتقدير دور شرطة "حماس" في ضبط تلك الفوضى وضمان السلم الأهلي الذي لا يراه الغزّويّون يقلّ خطورة عن القصف الإسرائيلي نفسه. يوفر ذلك حاجة للحركة لدعم قوات الأمن في مشروع الحكم المقبل.
والحال أن قوام المخطط هو أن تنسحب الحركة من المشهد السياسي، على أن يُتفق على آلية استيعابية لعناصرها ممن لا علاقة مباشرة لهم بالجناح العسكري للحركة، أي "كتائب عز الدين القسام"، في جهاز الشرطة المدني، إلى جانب العناصر من فصائل أخرى مثل "فتح" و"فتح - تيار الإصلاح الديمقراطي" وحركة الجهاد وهي الفصائل الكبرى في القطاع.
وبذلك تصبح "حماس" شريكة في السلطة وفي مغانمها، وهي تكسب من ناحية إضافية أيضا كونها ستحفظ رأسها من العاصفة المقبلة على المنطقة، معتمدة، تماماً كراعية المحور، إيران، تقية سياسية في مرحلة صعبة.
الحل الطَموح يأتي من ضمن سلة يريدها الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، وهي ليست المرة الأولى، بل إنها تسوية تاريخية بناء على الاتفاقيات الإبراهيمية التي رعاها في نهاية ولايته الأولى ولم تبصر النور سوى جزئيا، بسبب عدم إيجاد حل للقضية الفلسطينية.
لكن لا شريك إسرائيلياً الآن يقبل بالجلوس حتى مع السلطة الفلسطينية. وسيكون على ترامب الضغط على الحكومة الإسرائيلية، وسط خلاف متصاعد بين الجانبين، أو انتظار شريك إسرائيلي يقبل بحل الدولتين أو ما يشبهه.
فالعرب كانوا واضحين، هم يقبلون بالحل على أساس القرارات الدولية ومبادرة السلام العربية. ومن غير المقبول الالتفاف على الفلسطينيين، ناهيك عن أن ذلك لن ينجح أصلاً من دون حل القضية الأم.
الباب الإنساني قد يكون مدخلاً للحل طويل الأمد
وفي هذه اللحظة السياسية والعسكرية في غزة، فإن العمل جار للضغط على إسرائيل من الباب الإنساني ليشكل ذلك مدخلاً لحلٍ سياسيٍ كبير يوفر بدوره خروجاً آمناً لنتنياهو من الحياة السياسية.
وبعد وقف إطلاق النار وعلى أمد زمني غير قصير، يصبح الإعمار العربي ممكناً وتشكيل لجنة أو مشروع حكومة الوحدة الوطنية الانتقالية التي قد تتخذ شكل حكومة مدنية أو تكنوقراط أو عائلات، لكي تنخرط "حماس" في هذا الشكل من الحكم الانتقالي بعد تسليم السلاح الثقيل وتوفير بعض الضمانات لشخصياتها عبر قطر ومصر، وليتم الإشراف على الإعمار وعلى توزيع المساعدات من دون تمييز.
وسط هذه الرؤية الطموحة، هناك تشكيك في نيات ترامب وحتى في قدرته على فرض الحل، لكن جديّة الأخير ضرورية لعدم ترك المجال أمام نتنياهو للمناورة. ويأتي هذا مع تحضير المشهد لخليفة عباس على رأس السلطة الفلسطينية، حسين الشيخ، الذي سيشرع بإصلاحات سياسية واقتصادية تجعل منه شريكاً مقبولاً للحل أمام الاسرائيليين والأميركيين والعرب والمجتمع الدولي عموماَ.
في كل الأحوال فإن العمل يجري على مسارين متداخلين: إنهاء الحرب من ناحية، وفتح مسار سياسي، عربي سعودي، ودولي أميركي فرنسي، من ناحية ثانية. المسار الأول صعب، والثاني طويلٌ زمنياً ويعتمد على الأول. لكن لا استقرار للمنطقة من دون حلٍ لهذه القضية.