عمدت السلطة السياسية منذ بدء الانهيار إلى وضع "عربة" الحلول المرحلية والاستراتيجية للأزمة الاقتصادية قبل "حصان" الاصلاحات. فاقرت قانون انتاج الطاقة الـمتجدّدة والـموزعة قبل إصلاح شبكة الكهرباء وتأمينها بشكل متواصل. ورفعت تعرفة الكهرباء والمياه والاتصالات قبل معالجة الهدر. وعالجت الودائع بالتعاميم قبل إعادة الهيكلة و"الكابيتال كونترول". وزدات معاشات الموظفين قبل إصلاح القطاع العام. وانشأت الصندوق السيادي للموارد البترولية قبل أن "نشم رائحة الغاز". ويمكن لنا أن نعدّ العراقيل لغاية "صباح الغد"، لولا لم يقاطعنا توقيع الدولة قرض جديد مع البنك الدولي للكهرباء. فهل عُدّلت وضعية الحصان والعربة؟ أم بقيت على ما هي عليه؟

بعد أشهر طويلة من المفاوضات وقع وزير المال ياسين جابر والمدير الإقليمي في البنك الدولي جان كريستوف كاريه، قرضاً بقيمة 250 مليون دولار مخصص لمعالجة موضوع الكهرباء في لبنان. وبالعودة إلى قرار مجلس الوزراء رقم 5 تاريخ 11 أيلول 2024 يتبين أن مشروع القرض سيخصص لإعادة تأهيل محطات التحويل وشبكات النقل، وإنشاء مركز وطني للتحكم بالطاقة، وزيادة قدرة الطاقة المتجددة، من خلال إعادة تأهيل ثلاث محطات طاقة كهرومائية وتركيب محطة طاقة شمسية بقدرة 150 ميغاواط.

"قنبلة دخانية"!

من حيث الشكل تمثل هذه الدفعة المالية قرضاً، سيضاف إلى مستحقات الكهرباء المتراكمة للعراق منذ العام 2022 ولغاية نهاية 2024 بقيمة 2 مليار دولار. ومن غير المعروف لغاية اللحظة إن كانت الكهرباء ستسدد القرض من عائداتها، أم أن الحكومة ستسدد المبلغ من الخزينة كما جرى من اتفاقيات الفيول العراقي الثلاثة الاولى. أما في المضمون فان القرض عبارة عن "قنبلة دخانية تعمي الانظار عن كل الاصلاحات المسبقة التي يجب تنفيذها في قطاع الطاقة، من دون أن تقدم قيمة مضافة حقيقية للقطاع المترهل والمليء بالهدر والفساد والفوضى"، يقول محلل سياسات الشراكة بين القطاعين العام والخاص في المعهد اللبناني لدراسات السوق، ومدير عام الاستثمار السابق في وزارة الطاقة غسان بيضون.

الاجراءات المسبقة المطلوبة

الاستفادة من القرض الموقع مع البنك الدولي أو أي قرض آخر أو مساعدة مستقبلية، يَفترض بحسب بيضون اتخاذ جملة اجراءات لضمان نجاح تحقيق الاهداف والمشاريع المنبثقة عنه، ومنها:

- استكمال تعيين رئيس وأعضاء لمجلس إدارة كهرباء لبنان.

- تعيين مجلس إدارة للمصلحة الوطنية لنهر الليطاني وملء الشواغر في وظائفها الفنية.

- تعيين الهيئة الناظمة لقطاع الكهرباء.

- ⁠إنشاء مديرية الطاقة المتجددة المنصوص عنها في قانون إنتاج الطاقة المتجددة الموزعة.

- ⁠تعيين مدراء أصيلين في جميع المديريات في مؤسسة كهرباء لبنان.

- ⁠تعيين فريق خاص لإدارة المرحلة وبحث إمكانية أن يتم تشكيل هذا الفريق من قدامى مدراء المؤسسة: مدير الدراسات، مدير النقل، مدير التوزيع والرقابة، مدير عام سابق اختصاصه الكهرباء وممن تدرجوا في الخدمة من أدنى المواقع إلى أرفعها، واختبروا افضل الممارسات التي ساهمت في ازدهار المؤسسة في عزّها.

التعرفة لن تنخفض

التسليم جدلاً بامكانية الاستفادة القصوى من قرض البنك الدولي، فان المستهلكين لن يلمسوا تحسناً بالتغذية أو التعرفة. فانتاج 150 ميغاواط مركزياً من مصادر الطاقة المتجددة يمثل أقل من 5 في المئة من الحاجة الفعلية، فيما ارتفاع نسبة الهدر الفني وغير الفني سيضيّعان نصف الكمية المنتجة. أما من ناحية الكلفة فان انخفاض كلفة الانتاج من معامل الطاقة النظيفة، لن ينعكس تراجعا بسعر الكيلوواط\ساعة المحدد بـ 27 سنتاً. فـ"هذه التعرفة التي رُبطت بسعر برميل النفط عند إقرار "خطة الطوارئ الطاقوية"، لم يعاد النظر فيها طيلة العامين الماضيين رغم تراجع سعر برميل النفط من حدود 110 دولارات وقت إقرارها، إلى حوالي 65 دولارا راهنا"، بحسب بيضون. "وكان يجب أن تنخفض التعرفة بنسبة 35 في المئة إلى حوالي 18 سنتاً، وهذا ما لم يحصل". هذا فضلا عن كون كلفة الانتاج من المعامل الحرارية منخفضة جداً، ولا تتجاوز 15 سنتا للكيلواط ساعة كون المؤسسة لا تسدد ثمن المحروقات. وعليه فان "الكهرباء" بحسب بيضون، ومع الابقاء على سعر التعرفة مرتفعا مع ما تتضمنه من رسم اشتراك باهظ، بغض النظر عن كلفة الانتاج لضمان تغطية فرق الهدر الكبير وقلة التحصيل، لم تنجح المؤسسة بتحقيق التوازن المالي رغم رفع التعرفة. الدليل عدم وضع موازنة 2024، ما يدل على ان النتائج غير ايجابية.

الكهرباء تتأمن بهذه الحالة

الحل لأزمة الكهرباء في لبنان لن يأت من خلال إنفاق المزيد من الاموال عليها، إنما من خلال "الانتقال إلى لامركزية انتاج وتوزيع الطاقة"، من وجهة نظر بيضون. و"السماح للبلديات واتحاداتها التعاون مع القطاع الخاص ببناء مزارع طاقة شمسية تتولى إدارة الشبكة ومراقبتها والجباية والتوزيع". إذ عدا عن كلفة الكهرباء المرتفعة وتراجع خدماتها لا شيء يبشّر بالقريب العاجل بامكانية تعافيها أو الايفاء بمتتطلباتها بما يتوافق مع حاجات المواطنين والاقتصاد".

يقال في الامثال الشعبية "شو بتعمل الماشطة بالوجه العكِر"، للدلالة على ان تغيير الشكل الخارجي لا يغير المضمون. وكذلك الامر في الكهرباء فان محاولة تجميلها بالقروض، لن يحسن وضعها. بل العكس سيفاقم الديون عليها، ولاسيما ان جرى هدر القرض، كما هدر قبله أكثر من 40 مليار دولار.