ككرة لهبٍ، تدحرج النقاش في الجلسة التشريعية في مجلس النواب، وسط مداخلات حامية اتخذت بُعدًا طائفيًا. وقد صحّ ما قاله رئيس المجلس نبيه بري في ردّه على مداخلات بعض النواب: "هذا أمرٌ لا يجوز على الإطلاق. علينا كمجلس نوّاب أن نمتصّ كلّ شيء، فالنائب هو نائب عن الأمة كلّها، وهذا منصوص عليه في الدستور". لكن الواقع يُظهر أن الطائفية لا تزال تحكم خيارات النواب، كما بدا واضحًا في النقاش الدائر حول انتخابات بلدية بيروت، والذي اتخذ بُعدًا طائفيًا خطيرًا يعكس عمق انعدام الثقة بين الفرقاء على خلفية تبدّل موازين القوى.
كشفت الخلافات حول انتخابات بلدية بيروت البُعد السياسي للنزاع. فبعض النواب يحاذرون من التحالف مع حزب الله بفعل الضغوطات الخارجية. وفي كواليس النقاش، نُقل عن بعض الموفدين الدوليين أنهم أوحوا لرئيس حزب "القوات اللبنانية" بإمكانية السيطرة على قرار بيروت بالتعاون مع النائب ابن بيروت فؤاد مخزومي. وقيل له إن هذه الثنائية يمكن أن تُهمّش الآخرين. حسابات خطأ أوقعت المسيحيين في شرّها . جاء من يسألهم وما نفع المناصفة إذا تمت المقايضة بصلاحيات المحافظ المسيحي؟
على مقلب مواجه، شعر الثنائي بأنه مُطوَّق، وبأن الأمور تخرج من سيطرته، في ظل انعدام التوافق معه وتراجع قدرته عن التأثير بالقوى الأخرى وهذه حقيقة مرة يتذوقها في الانتخابات البلدية، وما بيروت الا مثالاً.
إنها خارطة سياسية مضطربة، كشفت عن مأزق داخلي عميق يصعب معالجته. الجلسة التشريعية فُتحت على نقاشات بالغة الحساسية كان من الصعب الإفلات منها، وكم من القوانين كان يصعب إقرارها دفعة واحدة! لقد كانت جلسة مُربِكة سبقتها اتصالات بين القوى السياسية لتفادي فضيحة تتعلّق باللوائح المغلقة التي قدّمها النائب غسان حاصباني، قبل أن يتم تنبيه "القوات" إلى خطورة ما تم تقديمه.
سبق الجلسة اتصالات ومحاولات حثيثة لتطويق النقاش حول قانون البلديات. وقد نبّه نواب الثنائي المسيحيين إلى خطورة الموقف، وشعروا بأنهم باتوا وحيدين في معركتهم. هم يصرّون على إجراء الانتخابات البلدية، ولكنهم في قرارة أنفسهم يتمنّون لو يتم تجنب الخوض في هذا الاستحقاق في ظل الظروف الراهنة. ومع ذلك، فإن الانتخابات باتت على الأبواب.
هناك صعوبات لوجستية ومالية كبيرة
ما يريح الثنائي هو أن الوقت لا يزال متاحًا لتنظيم انتخابات الجنوب وترتيب أمورها. وقد تم مبدئيًا الإتفاق على وضع صناديق الاقتراع الخاصة بالقرى المدمّرة في قرى أو بلدات محاذية غير مدمّرة، أو في المحافظات والمؤسسات الحكومية القريبة.
لكن إجراء هذه الانتخابات في الجنوب دونَه محاذير ومخاطر أمنية. الحرب الإسرائيلية لم تنتهِ بعد، والاحتلال لا يزال جاثمًا على خمس تلال استراتيجية تُشرف على كامل المنطقة. ويأتي استحقاق الانتخابات البلدية والاختيارية ليشكّل امتحانًا صعبًا للسلطة السياسية والأحزاب على اختلافها. فبعيدًا عن صعوبة التعامل مع العائلات التي لا تُبدي حماسة لهذه الانتخابات ذات الطابع العائلي والإنمائي، هناك صعوبات لوجستية ومالية كبيرة، لا سيما في ظل غياب التمويل الدولي.
سابقًا، كانت الانتخابات البلدية تحظى بتمويل ودعم من المنظمات الدولية وهيئات المجتمع المدني. أما اليوم، وفي ضوء القرار الأميركي بتقليص المساعدات أو وقفها، أصاب هذا القرار لبنان في الصميم، وتوقفت المساعدات كما توقف تدفّق العاملين مع المنظمات الدولية إلى الوزارات والمؤسسات العامة.
حتى اليوم، لم تعلن وزارة الداخلية عن تقديم طلب رسمي لتمويل الانتخابات، ولم يُقرّ مجلس الوزراء الميزانية المطلوبة. لكن الواقع في الجنوب يختلف عن باقي المحافظات، إذ لا تزال بعض القرى مدمّرة بالكامل، والمنازل والمدارس والمباني الحكومية فيها مدمّرة، ما يجعل الإقامة فيها مستحيلة. وحتى الآن، لم تُعلن الحكومة كيف ستتعامل مع هذا الوضع أو كيف ستُنظّم الانتخابات، خصوصًا أن كل ما فعلته هو تقديم موعد الانتخابات إلى 24 أيار بدل 25 منه، لتفادي تعارضه مع عيد التحرير، وكأن العقبة الوحيدة هي الاحتفال، بينما لا عيد ولا تحرير ولا قدرة فعلية على الاحتفال.
حتى الساعة، لا تزال طريقة تنظيم العملية الانتخابية مجهولة. مصادر مطلعة على التحضيرات أشارت إلى أن الوزارة رصدت مبلغًا يتراوح بين 12 و16 مليون دولار من احتياطي الموازنة، وتم الاتفاق مع الأساتذة للالتحاق بمراكز الاقتراع في جبل لبنان، حيث ستُجرى أولى الدورات. كما تمّ تجهيز المستلزمات اللوجستية الأساسية.
مصادر في وزارة الداخلية أكّدت أن التحضيرات جارية على قدم وساق، والاستعدادات منجزة تقنيًا وأمنيًا. لكن الخوف لا يزال قائمًا من عدوان إسرائيلي محتمل، بذريعة استهداف حزب الله.
يُضاف إلى ذلك أن الحماسة الشعبية ضعيفة، والإقبال على التصويت غير محسوم. وحدها الأحزاب تُعلن الاستنفار وتتأهّب، وعينُها على الفوز في انتخابات تُعدّ اختبارًا قبل الانتخابات النيابية المقبلة.