لم يعُد مشروع "حصر السلاح في يد الدولة" مجرّد عبارة في البيان الوزاري لحكومة نوّاف سلام وفي خطاب القسَم للرئيس جوزف عون، بل بدأ يخرج من النَصّ الجامد إلى الحيّز المتحرّك بين خطَّين:

"حوار السلاح" بقيادة الرئاسة الأُولى مع المسؤولين في "حزب الله"، والنقاش في مجلس الوزراء بدءاً بجلسته اليوم في قصر بعبدا.

وهذه الدينامية لحلّ مسألة السلاح غير الشرعي باتت بين حدَّين محسومَين:

الجدولة الزمنية من جهة، والإطار الواقعي لمعالجة وضع المقاتلين والمسلّحين بخطوات عملانية ممكنة، من جهة ثانية.

فبالنسبة إلى الجدول الزمني لسحب السلاح وحصره كلّياً في عهدة الدولة، وضع الرئيس عون مهلة أقصاها نهاية السنة الجارية 2025، بما يتوافق مع طرح القوى السياسية السيادية (6 أشهر)، ومع المطالبة الأميركية والدولية والعربية بـ"أسرع وقت ممكن"، وهي مهلة معقولة وفقاً لوتيرة دهم الترسانات والمخازن والمواقع التي نشرها "الحزب" بشكل واسع سواء في جنوب الليطاني أو شماله وصولاً إلى الضاحية وبيروت والبقاع وبعض مرتفعات السلسلة الغربية.

وقد اعترفت الدولة بحاجتها إلى وقت كافٍ لتفكيك كل هذه "الجبخانات"، قياساً على وتيرة ما أنجزه الجيش اللبناني على مدى 5 أشهر تقريباً بعد "وقف الأعمال العدائية" فجر 27 تشرين الثاني 2024.

أمّا الإطار الذي ستتم من خلاله معالجة وضع المقاتلين فقد أوضحه رئيس الجمهورية في حديثه الأخير لقناة "الجزيرة" القطرية وقناة "العربي الجديد"، وكنّا قد أشرنا إليه غير مرة في مقالات سابقة، خصوصاً في ما يتعلّق بما كان يُسمّى "إستراتيجية دفاعية" وباتت اليوم جزءاً ملحقاً بـ"استراتيجية الأمن الوطني" الأشمل والأعمق.

وأهمّ ما في هذه الاستراتيجية الوطنية الحاضنة والواسعة، ليس فقط شمولها كل قطاعات الدولة خصوصاً الاقتصادية والمالية والاجتماعية والدبلوماسية والقضائية، بل اعتبارها مسألة الدفاع عن لبنان مسؤولية حصرية للجيش اللبناني والقوى الأمنية تحت قيادة الشرعية السياسية التي يختصرها نَص المادة 49 من الدستور "رئيس الجمهورية هو القائد الأعلى للقوات المسلّحة التي تخضع لسلطة مجلس الوزراء"، وليس بشراكة أحزاب وقوى مسلّحة غير شرعية كما كانت عليه حال طاولات الحوار بين 2006  و2012.

وتأسيساً على مبدأ الحصرية هذه، لا يمكن لـ "حوار السلاح" والنقاش في مجلس الوزراء أن يأخذا بالصيغ السابقة لمقاربة حلّ السلاح والمسلّحين، كتشكيل لواء أو أكثر ل"الحزب" داخل الجيش، أو "فرقة أنصار" رديفة، أو نموذج "الحشد الشعبي" في العراق.

وكان الرئيس عون شديد الوضوح في هذا المجال وقال إن ما يمكن اعتماده هو تطويع عناصر من "الحزب" وتأهيلهم أسوةً بما جرى بعد اتفاق الطائف مع المليشيات الأخرى، مع أن تطويعهم سيكون أشدّ حساسية وصعوبة نظراً إلى الأدلجة الفولاذية التي خضعوا لها منذ صغرهم تحت عناوين "جندي في ولاية الفقيه" و"السلاح يحمي السلاح" و"وحدة الساحات" و"شهيد على طريق القدس"، وآخر هذه العناوين العقائدية كان أن السلاح هو في عهدة "المهدي المنتظر".

والأكيد أن هذا الإجراء الذي أعلنه الرئيس عون سيحافظ على العقيدة القتالية اللبنانية للمؤسسة العسكرية وتوازنها، فلا يكون سبباً لأي عطب أو خلل في التزاماتها وأدائها، أو تفخيخها بعقيدة دخيلة غير وطنية.

ولكنّ الجدول الزمني والإطار الموضوع لمعالجة السلاح والمسلّحين لا يزالان يصطدمان برفض الجناح المتشدد في "حزب الله"، وقد خرجت أصوات قيادية منه تجاهر بهذا الرفض فور صدور موقف رئيس الجمهورية، وكأنها تردّ عليه وتقطع الطريق على الطرح الذي شرحه، التزاماً منها بعبارة الأمين العام الأسبق لـ "الحزب" السيّد حسن نصرالله "كل يد تمتد إلى السلاح ستُقطع". وكان آخر المهدِّدين بقطع اليد عضو المجلس السياسي الوزير السابق محمود قماطي في حديثَين له كان آخرهما أمس لقناة "الجديد"، معترضاً على الجدول الزمني الذي وضعه الرئيس، ومعلناً أن "سلاح المقاومة" سيبقى أساسياً في "الاستراتيجية الدفاعية".

قد تكون هذه الأصوات الرافضة تسليم السلاح تعبيراً عن أحد أمرَين:

إمّا للضغط على الرئاسة اللبنانية ومجلس الوزراء وابتزازهما بهدف تمييع القرار وتحصيل مكاسب،

أو لتمرير الوقت قبل بلوغ مفاوضات إيران مع الولايات المتحدة خواتيمها سلباً أو إيجاباً.

وفي الحالَين، لا تسير الأمور وفقاً لرغبة هذا الطرف "الممانع" تسليم سلاحه، لأن الاتجاه إلى حلّ السلاح بات محسوماً، و"القرار قد اتُّخذ" كما ورد في خطاب كبار الدولة، وكلّ المواقف الداخلية والخارجية تلتقي حول هذا الهدف، والقدرة على مواجهة هذا القرار قصيرة النفَس بحكم المراقبة الشديدة المتزايدة لمسالك تهريب السلاح والمال. ففي المثَل الشعبي اللبناني "اللي ما بينبع بيخلص".

والواضح أن العقلاء في "الثنائي الشيعي" يدركون استحالة التملّص من المسار المحتوم مهما طالت المماطلة، وباتوا يسلّمون بإجراءات الجيش في مصادرة مخازن الأسلحة ودخول الأنفاق، ليس فقط في منطقة جنوب الليطاني بل في شماله وسائر المناطق.

ولا يمكن بعد اليوم الرهان على استعادة إيران نفوذها السابق والطاغي، وقدرتها على التحكّم بالقرار اللبناني بعدما أصبح مدعوماً عربياً ودولياً، فهي تساوم عبر المفاوضات لدفع أثمان ثلاثة من برنامجها النووي وصواريخها ومراكز نفوذها، مقابل تحقيق هدفَين: إنقاذ نظامها ورفع العقوبات الخانقة.

وما على الرؤوس الحامية المتبقّية لدى "حزب الله" سوى اعتماد اعتدال الربيع قبل حرارة الصيف، والتزام نصائح الحكماء.