يقف لبنان على "إجر ونص" في انتظار صدور تقرير مجموعة العمل المالي في تشرين الأول المقبل. فالنفاذ من "خروم شباك" اللائحة الرمادية قد لا يكتب للبنان في الاجتماع الثالث والأخيرة للمجوعة لهذا العام. وللمناسبة، فإنّ هذا الاجتماع هو الأول بحسب البرتوكول المعمول به من قبل المجموعة، برئاسة إليسا دي أندا - المكسيك، التي خلفت راجا كومار – سنغافورة، لمدّة عامين تنتهي في حزيران 2026. إذ تعقد المجموعة 6 اجتماعات كلّ عامين برئاسة دولة جديدة. وتتوزّع الاجتماعات على شباط وحزيران وتشرين الأول. وتتضمّن مراجعة لالتزام الدول قواعد مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب. وتعيد تصنيف الدول غير الملتزمة على إحدى اللائحتين الرمادية أو السوداء، وتزيل الملتزمة.
منذ بداية العام 2023، يحبس لبنان أنفاسه قبل كلّ اجتماع لمجموعة العمل المالي. ولا يتنفّس بملء الرئتين إلّا بعد صدور التقرير النهائي الذي يُظهر عدم إدراجه على اللائحة الرمادية. الحالة المقلقة تتكرّر قبل الاجتماع الأخير لهذا العام. يفاقمها أنّ الإجراءات التي اتّخذها لبنان يصف الخبراء بـ "الشكلية"، إذ "تتناسى معالجة السبب الجوهري للمشكلة والمتمثّل بسيطرة الاقتصاد النقدي على 65 في المئة من الاقتصاد". ويقدّر الأمين العام لهيئة التحقيق الخاصة – وحدة الإخبار المالي اللبنانية- عبد الحفيظ منصور حجم الاقتصاد النقدي بحوالى 14 مليار دولار، من أصل ناتج لا يتجاوز 21.5 مليار، بحسب أرقام البنك الدولي. ويحمل اللبنانيون بين أيديهم بين 5 و6 مليارات دولار نقداً. وهو ما يخالف كلّ التدابير التي تتّخذها الدول للحدّ من التداول بالنقد. فقد عمدت أوروبا أخيراً، وتحديداً في حزيران الماضي، على سبيل الذكر لا الحصر، إلى منع التسديد النقدي لشراء مختلف السلع والعقارات التي تتجاوز قيمتها 10 آلاف يورو. أمّا أميركياً فبالإمكان إجراء البيوعات العقارية نقداً إن قبل المشتري، إذ بوشر العمل على الإبلاغ عن العمليات العقارية التي تجري خارج المؤسسات المصرفية إذا تجاوز السعر 300 ألف دولار. كذلك طلب السلطات الرقابية الإبلاغ عن الأموال المنقولة التي تفوق قيمتها الـ 10 آلاف دولار أميركي.
منذ بداية العام 2023، يحبس لبنان أنفاسه قبل كلّ اجتماع لمجموعة العمل المالي...
تجربة لبنان مع اللائحة الرمادية
وإن لم يكن لبنان البلد الوحيد الذي يتوسّع فيه التعامل النقدي، فإنّه كان، قبل العام 2019، في طليعة الدول التي التزمت الشمول المالي، أي استخدام الخدمات المالية من خلال النظامين المالي الرسمي والعالمي. وعليه، فإنّ "ظاهرة الاقتصاد النقدي في لبنان تعتبر مستجدّة ونقيضة لما كان عليه الحال لعقود خلت"، بحسب منصور. "والسبب الأساسي هو فقدان الثقة بالنظام المصرفي وتعمّد الأفراد الاحتفاظ بأموالهم وتداولها نقداً".
إزاء هذا الواقع، تكثّفت الجهود منذ نهاية العام 2022 لإصدار تشريعات واعتماد إجراءات تخفّف "احمرار عين" المجتمع الدولي من تفاقم الاقتصاد النقدي، وتزايد إمكانية عودة لبنان إلى تبييض الأموال. وذلك بعدما نجح لبنان في العام 2002 في الخروج من اللائحة الرمادية لمجموعة العمل المالي، التي كانت تعرف آنذاك باسمها الفرنس "غافي"،( Groupe d'action financière GAFI)، بعد عامين على إدراجه عليها. ويعود الرفع في ذلك الوقت إلى التزام لبنان قواعد مكافحة تبييض الأموال مكافحة جادة. إذ أقرّ قانون مكافحة تبييض الأموال في العام 2001، واستوفى 23 معياراً من أصل 24 لمكافحة تبييض الأموال، وبقي معيار عدم قدرته على الحد من التهرّب الضريبي. وأُنشئَت هيئة تحقيق خاصة بموجب قانون مكافحة تبييض الأموال، مهمّتها التحقيق في العمليات التي يشتبه في أنّها جرائم تبييض أموال. ورفعت التحفّظات عن انضمام لبنان إلى "اتفاقية فيينا" للعام 1988، وعدم الاعتداد بالأحكام المخالفة لهذا القانون، لا سيما في ما يتعلق بالسرّية المصرفية.
الإجراءات المتّخذة لمكافحة تبييض الأموال
استتبعت هذه الإجراءات بإقرار لبنان مجموعة مهمّة من القوانين التي تحول دون تبييض الأموال في العام 2015، ومنها:
- قانون انضمام لبنان إلى اتفاقية الأمم المتحدة الدولية لمكافحة تمويل الإرهاب.
- تعديل قانون مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب.
- قانون التصريح عن نقل الأموال عبر الحدود.
- قانون تبادل المعلومات الضريبية.
نجحت هذه التدابير إلى العام 2019 في تجنيب لبنان اتهامات تبييض الأموال، لكنّها أضحت غير كافية بعد الانهيار في العام 2019. لذا عمد لبنان إلى إصدار مجموعة من التشريعات والتعاميم للحدّ من الاقتصاد النقدي، أهمّها:
- قانون مكافحة الفساد في القطاع العام في العام 2020، وهو القانون الذي أنشئت بموجبه الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد رسمياً.
- قانون التصريح عن الذمّة المالية، ومعاقبة الإثراء غير المشروع في العام 2020.
- قانون استعادة الأموال المتأتية عن جرائم الفساد في العام 2021.
- تعديل قانون السرية المصرفية.
وفي موازاة ذلك، عمد مصرف لبنان إلى إصدار مجموعة من التعاميم ذات الصلة، أهمّها:
- التعميم 150 الذي صدر في العام 2020 وسمح بفتح الحسابات الجديدة بالعملات الأجنبية.
- التعميم الوسيط 598 في العام 2021 وهو يلزم المصارف بالإبلاغ عن الأوضاع الشهرية لفروع لبنان الخاصّة بالأموال الجديدة لمراقبة الحسابات.
- التعميم 165 في العام 2023 وهو متعلّق بمقاصّة وتسوية الشيكات بالدولار والليرة النقدية (الفريش).
وبالأرقام، أدّت هذه الإجراءات إلى ارتفاع القيمة الإجمالية للحسابات الجديدة إلى 3.6 مليار دولار في العام الجاري، وبزيادة مقدارها مليار دولار عمّا كانت عليه في العام 2023. ودفعت نحو زيادة الشيكات بالدولار النقدي بنسبة 10 في المئة شهرياً ابتداء من آب 2023 وبلغت مجموع التحاويل لشيكات "الفريش" في منتصف 2024 حوالى 5.6 مليار دولار.
غير كافية
هذه القوانين والإجراءات، على أهمّيتها، بقيت منقوصة. فقانون تعديل السرية المصرفية لم ينل رضى صندوق النقد والمجتمع الدولي لكونه ناقصاً ولا يؤدّي المطلوب منه. فيما لم تُعّل الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد رغم تشكيل الهيئة في العام 2022. وبقيت المكافحة الحقيقية للفساد بمختلف أوجهه مرتبطة بعدم تفعيل قانون التبادل الضريبي بين لبنان والخارج. وهو القانون الذي من شأنه كشف كلّ المخالفات والتجاوزات والسرقات من المال العام والمال الخاص، عفواً، أو بطلب خاص فيما لو فُعّل. والتبادل غير النقدي بواسطة الشيكات وبطاقات الاعتماد لا يرقى إلى ربع ما كان عليه قبل الانهيار بسبب فقدان الثقة بالنظام المصرفي. وأهم من ذلك كلّه يبقى أنّه من دون إعادة هيكلة القطاع المصرفي وتشديد الرقابة على الكتّاب العدل ومكاتب المحاماة وتجار المجوهرات والعقارات، فإنّ مخاطر اتّهام لبنان بتبييض الأموال ستبقى حاضرة إن لم يكن في اجتماع تشرين الأول المقبل، ففي اجتماع شباط 2025.
صحيح أنّ للاقتصاد النقدي فوائد عالية مثل السرية والكلفة المنخفضة وهامش الحرية الواسع، لكن في المقابل يحمل انعكاسات بالغة الخطورة كتبييض الأموال وصعوبة تنفيذ العمليات الكبيرة والتزوير وصعوبة نقل المدفوعات عبر الحدود، وعدم إمكانية تتبع المال. لهذا، فإنّ مكافحة تبييض الأموال ودرء خطر اللائحة الرمادية يتطلّبان إجراءات جادّة لوقف الاقتصاد النقدي والفساد وليس إجراءات شكلية.