يعود بعض المودعين إلى الشارع من جديد يوم غد، الأربعاء، للمطالبة بتحرير ودائعهم انطلاقاً من الحرب على جنوب لبنان. فالأضرار الكبيرة التي لحقت بالممتلكات والأرزاق والمصالح والأعمال "يمكن تعويضها من الودائع المحجوزة، من دون انتظار منّة الدولة المفلسة، العاجزة والمنهوبة"، بحسب بيان الدعوة التي أطلقها "اتّحاد المودعين في مصارف لبنان". فهل تكون الحرب مدخلاً إلى تحرير الودائع، بعدما عجزت الويلات التي سبقتها عن "فكّ أسر" دولار واحد من الحسابات! 

لم يصحُ المودعون، كلّ المودعين، من ضربة "تطيير" الودائع التي تلقّوها على رأسهم في الأول من تشرين الثاني 2019، تاريخ عودة المصارف إلى فتح أبوابها من جديد بعد أسبوعين من الإغلاق على وقع الاحتجاجات الشعبية. منذ ذلك التاريخ المشؤوم، الذي أيقن فيه البعيد قبل القريب حراجة الوضع النقدي، إلى اليوم، ما زال المودعون "دائخين". أكثر من أربع سنوات مرّت على الفاجعة وما برحوا يواجِهون بـ "ردّة فعل". ولا تخرج الدعوة الجديدة لاتّحاد المودعين في مصارف لبنان، باسم أبناء القرى الحدودية، عن هذا السياق.  

تكبير السبب لا يساعد على تحرير الودائع 

المطالبة بالودائع من قبل "الاتحاد"، الذي أُطلق قبل أقلّ من عام للمدافعة عن المودعين، يشوبها تساؤلات عديدة بالشكل والمضمون. فمن حيث الشكل، تشي الدعوة بحاجة المودعين إلى سبب وجيه ومقنع للمطالبة بحقهم المسلوب. وكلّما كبّروا المُبرر، أسبغوا مشروعية أعظم على المطالبة. في حين أنّ استرجاع الودائع حقّ طبيعي وبديهي لا يحتاج إلى أيّ تبرير، يستوجب أن يكون مُتتابعاً، لا أن يتحوّل إلى "هبّات" ظرفية. ولم ينتبه مطلقو الدعوة إلى أنّ المصارف، ومن خلفها السلطة مجتمعة، لم تتجاوب مع المطالبات الكثيرة والحثيثة بتحرير جزء بسيط من الودائع لغرض إعمار ما خلّفه انفجار مرفأ بيروت في العام 2020. وكلّ ما حصل عليه المودعون هو التعميم 13254 (من مصرف لبنان في السادس من آب 2020) الذي "طلب من المصارف والمؤسسات المالية العاملة في لبنان أن تمنح قروضاً استثنائية بالدولار الأميركي للمتضرّرين من الانفجار بغية ترميم منازلهم ومقارّ مؤسساتهم. وذلك بغضّ النّظر عن السقوف المحدّدة لكلّ عميل". وعلى غرار معظم التعاميم التي تطبّق باستنسابية، لم تستفد الغالبية من إمكان الاقتراض. وأساساً، كان المواطنون في هذه المرحلة بالذات مصابين بانهيار رواتبهم وتدهور قيمتها الشرائية وفقدان مداخيلهم بالدولار بشكل شبه كلّي. وعليه، رُمّمت المنازل بالمساعدات وتحويلات المغتربين، ولم "ترشّ" المصارف "نقطة ماء" على وجه المودعين. وإن كان الشيء بالشيء يذكر، فإنّ مناشدة ذوي الطلاب الذين يتعلّمون في الخارج، والمرضى والمحتاجين والمتقاعدين... المصارف تسيير أمورهم، لم تنفع أيضاً طوال الفترة الماضية، وجرى التعامل معها بكثير من اللامبالاة واللامساواة، رغم وجود تعاميم وقرارات واضحة من مصرف لبنان.  

تبرئة ذمّة الدولة 

في المضمون، تُبرِّئ الدعوة ذمّة الدولة من التعويض على المنكوبين جنوباً، فالدولة "لن تقدّم لنا أكثر من الوعود الكاذبة والمراوغة والمماطلة في التعويض" يقول نصّ بيان الدعوة، "والتعويضات تذهب في النهاية إلى الأزلام والمحسوبيات من أموال اللبنانيين المنهوبة في المصارف". وهذا يخالف أبسط شروط العقد الاجتماعي، ويفتح المجال تالياً لتبرير التحرّر من عباءة الدولة والتمنّع عن تسديد المواطنين متوجباتهم تجاه الدولة، بحجّة أنّها لا تؤمّن حقوقهم.  

الأخطر في المضمون أنّ الدعوة تطالب بإرجاع الودائع إلى شريحة محدّدة من المودعين يتمثّلون في أبناء القرى الحدودية المتضرّرين من الأعمال العدائية، على حساب كلّ المودعين. مع العلم أنّ "قضية المودعين المحقة، هي قضية مواطنين، من دون تمييز طائفي أو مناطقي أو مهني أو قطاعي، أو حتّى تفرقة بين ودائع كبيرة وصغيرة، وودائع مشروعة وغير مشروعة إلى حين إثبات العكس بحكم قضائي مبرم"، تقول الباحثة القانونية في الشؤون الاقتصادية والمصرفية، الدكتورة سابين الكيك. إنّما في المقابل "يملك كلّ مودع حقّاً شخصياً بالمطالبة بوديعته بالطريقة التي يراها مناسبة"، تضيف الكيك. و"ما لم يصدر في حقّ مصرف من المصارف حكم قضائي بالإفلاس أو التوقّف عن الدفع، يُوجب توزيع الحقوق على المودعين بالتساوي، فإنّ نيل مودع دون آخر وديعته لا يخالف القانون. مع العلم أنّ الأموال ستؤخذ من حقوق بقيّة المودعين. وذلك على غرار ما حصل مع الذين استحصلوا على وديعتهم من خلال أحكام قضائية مبرمة من الخارج، أو أولئك الذين حصلوا على وديعتهم بالقوّة أو التسوية". وعليه، لا شيء يجمع المودعين تحت سقف القانون بدعوى واحدة إلّا عند إعلان المصرف الذي ينتمون اليه الإفلاس أو التوقّف عن الدفع.  

الودائع غير موجودة  

في المضمون أيضاً، ليس في القطاع المصرفي، مجتمعاً، أكثر من 15 مليار دولار بين احتياطيات عملات أجنبية في مصرف لبنان وودائع المصارف التجارية في المصارف المراسلة، من أصل ودائع بقيمة "91 مليار 280 مليون دولار حتّى نهاية العام 2023"، بحسب تقرير جمعية المصارف. أي أنّ الفجوة تتجاوز 76 مليار دولار. وفي جميع الحالات، فمن أصل هذه الاحتياطيات يدفع مصرف لبنان والمصارف نحو 1.3 مليار دولار سنوياً لتمويل التعميمين 158 و166. وعليه، فإنّ "المطالبات بالاستحصال على الودائع لا تجدي نفعاً مهما كانت مبررة"، برأي الكيك، "ما لم تترافق مع خطوات قانونية وقضائية للمحاسبة والمساءلة". أكثر من ذلك، فإنّ صناديق "تكوين" الودائع التي يعد مطلقوها بإرجاع الودائع، عاجزة عن ذلك فعلياً. "لأنّه من غير المنطقي والعلمي أن تكون هناك طريقة لإيجاد هذه المبالغ وإعادتها للمودعين"، بحسب الكيك، "بدليل أنّ كلّ الخطط التي وضعت قامت على شطب الودائع بطريقة أو بأخرى وليس على إعادتها".  

الحديث عن إعادة الودائع يفرض علينا العودة إلى الجوهر وتنقية المسار من كلّ الفطريات التي نمت عليه. فبغضّ النّظر عن الطريقة التي ضاعت أو ضيّعت فيها الودائع، سرقة وفساداً وإهداراً وإساءة في الاستعمال، وبغضّ النّظر عمّن يتحمّل المسؤولية من مصارف ومجالس إدارات ومراقبين وحكومات ومجالس نواب، فإنّ "الهدف يجب أن يبقى استعادة الأموال من الذين ارتكبوا هذه المخالفات من خلال القانون والدعاوى القضائية"، بحسب الكيك. والقضاء هو المكان الوحيد الذي كان على المودعين الضغط عليه بقوّة ومن دون تراخٍ منذ البداية، والعمل، في الموازاة، على تنقية القضاء، لأنّ المعركة في الأساس هي معركة مساءلة ومحاسبة "، وليس التلهّي خلف اعتصامات في الشوارع تثير نقمة المواطنين، وقد لا تحرّر دولاراً واحداً من خزنات المصارف.