يكتنف الغموض مصير الكهرباء في لبنان. ساعات التغذية الأربع المتقطّعة، التي تصل المنازل والمؤسسات راهناً بـ "شقّ الانفاس"، قد تنخفض إلى صفر بعد أشهر قليلة. فخطّة الطوارئ الكهربائية التي تسيّر القطاع، لم تأخذ في الاعتبار "الأمن الطاقوي"، لا بمفهومه الضيق، ولا العريض. بل افترضت أنّ رفع التعرفة سيتيح شراء الفيول. وكلّما زادت الجباية من القطاع الخاص والإدارات العامة عززت مستوردات المحروقات حاجة المعامل، فترتفع التغذية حتّى تصل إلى 8 ساعات في العام 2028.  

لم تلحظ خطّة الطوارئ الكهربائية التي بدأ تطبيقها على أرض الواقع منذ تشرين الأول 2022، مصادر فيول بديلة عن النفط العراقي. فهي تعتمد على "عقد ضبابي" مبرم بين وزارة الطاقة اللبنانية وشركة تسويق النفط العراقي (SOMO)، بدعم حكومي. ويقضي الاتفاق بتزويد لبنان بمليون طنّ سنوياً من النفط الثقيل، مقابل وضع المستحقات بـ (اللولار) في حساب خاص لمصلحة العراق في مصرف لبنان، يُستخدم لشراء سلع محلّية، وتسديد ثمن خدمات للعراقيين داخلياً. هذا العقد الذي بدأ قبل ثلاث سنوات ليس دائماً، بل كان يُجدّد سنوياً بعد الكثير من المفاوضات، ووسط نقمة شعبية عراقية، لكون بلدهم الغارق في العتمة، لم يحصل على شيء من بيع 3.5 مليون طنّ إلى الآن، بقيمة تجاوزت 1.6 مليار دولار، لإضاءة لبنان. وفي جميع الحالات، فإنّ العقد الأخير الموقع عن السنة الثالثة ينتهي في تشرين الأول المقبل، من دون أن يُعرف على وجه الدقّة هل هناك من نيّة، أو إمكانية لتجديده من الجانب العراقي. خصوصاً أنّه من أصل مبلغ 1.6 مليار دولار الذي يدين به لبنان للعراق، لم يُوضع إلّا 550 مليون دولار (لولار) في حساب العراق من دون تحديد سعر صرف سحبها ولا الطبيعة الدقيقة للخدمات التي ستُقّدم.  


تمديد اتفاقية النفط العراقي إلى 2028 

مقابل هذه الفوضى غير الخلّاقة أظهرت وثائق جديدة، كشف عنها التقرير الاقتصادي الأسبوعي لبنك عودة، "تخطيط وزارة الطاقة للاعتماد على الفيول العراقي إلى العام 2028 على الأقل". وهذا ما يشير إلى الاعتماد على ترتيبات معقّدة لاستيراد الوقود العراقي لتلبية حاجاتها من الكهرباء من دون خطّة سداد متّفق عليها. ومن المتوقّع أن تزيد من تأخير تحوّل لبنان إلى مصادر طاقة متجدّدة بأسعار معقولة. وتهدف الخطّة إلى زيادة الاستيراد من مليون طن بقيمة تراوح بين 500 و550 مليون دولار، إلى 1.5 مليون طن بقيمة تصل إلى 772 مليون دولار سنوياً، لزيادة إنتاج الكهرباء إلى ثماني ساعات يومياً في العام 2028. و"هذا بدوره سيعمل على زيادة المبلغ الإجمالي المستحق للعراق ليصل إلى 5.5 مليار دولار أمريكي في العام 2028، مع اعتماد لبنان على الوقود الأحفوري من دون تحقيق تغطية الكهرباء على مدار 24 ساعة. بالإضافة إلى ذلك، وُضعت هذه الخطة من دون موافقة الحكومة العراقية على تمديد الصفقة حتى الآن".  

اتفاق النفط العراقي، على أهميته الطارئة لإنقاذ لبنان من شبح الظلام، يتعارض مع مفهوم "الأمن الطاقوي"، الذي يرتكز على "تنويع المصادر الطاقوية، وعدم الاعتماد على مصدر واحد".

الأمن الطاقوي لم يُؤخذ في الاعتبار 

اتفاق النفط العراقي، على أهميته الطارئة لإنقاذ لبنان من شبح الظلام، يتعارض مع مفهوم "الأمن الطاقوي"، الذي يرتكز على "تنويع المصادر الطاقوية، وعدم الاعتماد على مصدر واحد". ولكن كما يقال في الأمثال الشعبية اللبنانية "فإنّ العين بصيرة واليد قصيرة". فإيرادات الجباية، حتّى بعد رفع التعرفة، لا تسمح لمؤسسة كهرباء لبنان بشراء كفايتها من الفيول نقداً بالدولار، كما يُفترض، من خارج صفقة النفط العراقي المعقودة على مستوى دولة، للأسباب التالية: 
- عدم كفاية الجباية. وهذا ما يمكن الاستدلال عليه بعدم تحويل مبلغ يفوق 550 مليون دولار إلى العراق بعد عام وثمانية أشهر من دخول التعرفة الجديدة حيز التنفيذ. وهذا المبلغ لا يكفي لشراء أكثر من مليون طنّ من الفيول لا تؤمّن أكثر من ثلاث إلى أربع ساعات من التغذية. كما لم تنشر مؤسسة كهرباء لبنان حتى كتابة هذه السطور موازنتها للعام 2024 لتحديد حجم الإيرادات المحقّقة مقارنةً بالنفقات. مع ترجيح الخبراء في هذا المجال أن تفوق المطلوبات الإيرادات بأشواط.  
- رفض مصرف لبنان تحويل الليرات المجبية إلى دولار، خشية تدهور سعر الصرف. وعلى هذا المنوال ستتحوّل الجباية بالليرة التي تشكّل النسبة الكبرى من الدفع إلى مال وقف في مصرف لبنان لا يمكن استخدامه.  
- تراجع استهلاك الكهرباء بشكل دراماتيكي من قبل المشتركين نتيجة الكلفة المرتفعة، وتعمّدهم إلغاء الاشتراكات. إذ سجل منذ بدء تطبيق التعرفة الجديدة في تشرين الثاني 2022، إلغاء نحو 20387 اشتراكاً على التوتر المنخفض. ويشكّل عدد الاشتراكات الملغاة 1.33 في المئة من مجموع المشتركين البالغ حوالى مليون و533. هذا عدا آلاف المشتركين الذين لجأوا إلى تصغير العدادات.  
- عدم معالجة مأزق الهدرين الفنّي وغير الفني، اللذين يتجاوزان 50 في المئة في أحسن التقديرات.  
- تأمين نحو ثلث الحاجة من الطاقة من أنظمة الطاقة الشمسية الفردية وبقدرة تجاوزت 1000 ميغاواط.  
- تخلّف الدولة عن تسديد الفواتير المتأخّرة. فمن أصل استهلاك قدّرته خطة الطوارئ بـ 200 مليون دولار سنوياً من قبل الإدارات والمؤسسات العامة، حوّلت وزارة المال إلى الكهرباء مطلع هذا الشهر، مستحقات بقيمة 134 مليار ليرة، تعادل 1.5 مليون دولار فقط. وذلك عن كلّ من المديرية العامة لرئاسة الجمهورية، والأمانة العامة لمجلس النواب والأمانة العامة لمجلس الوزراء، ومؤسسة مياه البقاع لقاء استهلاكها للتيار الكهربائي خلال الفترة الممتدة من تاريخ 01/11/2022 إلى تاريخ 30/04/2023.مع العلم أنّ مجلس الوزراء أقرّ سلفة بقيمة 6850 مليار ليرة لتسديد استهلاك التيار الكهربائي من تاريخ 01/11/2022 إلى 30/06/2023.  

إن جدّد العراق العقد في تشرين الأول، أو لم يجدّده، فإنّ النتيجة سيان. فيوماً بعد آخر تثبت التجربة على أرض الواقع أنّه "ليس بالفيول وحده، تتأمّن الكهرباء". هذا إن لم نقل أنّ شراء الفيول يمثّل أبسط المشكلات التي تعانيها الكهرباء في لبنان.