تنهمك الأوساط المالية بمصير سندات الدين الأجنبية التي تخلّف لبنان عن سدادها في آذار 2020. فالدائنون سيفقدون القدرة على المطالبة بالفوائد المستحقّة بعد 5 سنوات، إذا لم تبدأ إجراءات التفاوض الجدّية على إعادة الهيكلة. وستصبح السندات باطلة ما لم تتم المطالبة بدفعها خلال 10 سنوات، من تاريخ الاستحقاق، وذلك استناداً إلى اتفاقية الوكالة المالية FAA. وعليه، لن يكون أمام الدائنين من خيار إلّا الادعاء على الدولة اللبنانية في محاكم نيويورك لحفظ حقوقهم، خلال مهلة الأشهر التسعة الفاصلة بين اليوم وآذار 2025.

لتجنّب سيناريو الدعاوى القضائية الدولية، عادت طروحات مطالبة الحكومة بإعادة شراء السندات، التي كان أول من طرحها الوزير السابق كميل أبو سليمان، إلى الواجهة من جديد. خصوصاً أنّ قيمتها، اليوم، لا تزيد على 7 سنتات للدولار. وإذا استثنينا ما تحمله المصارف التجارية اللبنانية ومصرف لبنان من سندات دين أجنبية بقيمة 2.9 و 5 مليارات دولار على التوالي، من أصل دين عام بقيمة إسميّة تبلغ 31.3 مليار، فإنّ الدين الواجب تسويته سريعاً يبلغ 23.4 مليار دولار، أو حتّى أقلّ. وهو دين محمول بمعظمه من صناديق استثمارية ومصارف وشركات تأمين عالمية. مع العلم أنّ قيمة سندات اليوروبوندز مع الفوائد المستحقّة بلغت 39.5 مليار دولار في نهاية كانون الثاني 2023، بحسب آخر المعطيات المتوافرة التي نشرتها جمعية المصارف في تقريرها الاقتصادي لشهر نيسان 2024.

BOA يستبعد إمكانية الشراء

هذا الطرح، على أهمّيته، يبدو مستبعد التطبيق بحسب آخر تقرير منشور لبنك أوف أميركا BOA الاستثماري، لعدة أسباب، أهمها:

- الطبقة السياسية تنظر إلى عملية إعادة الشراء ممارسة معزولة، وليست جزءاً من برنامج إصلاح اقتصادي أكثر شمولاً.

- من المرجح أن تؤدي إعادة شراء سندات اليورو إلى معارضة شعبية نتيجة استمرار القيود على السحب من الودائع المصرفية. إذ كيف ندفع مئات ملايين الدولارات لسداد دين، في حين أنّ أكبر مودع لا ينال أكثر من 4800 دولار سنوياً بحسب التعميم 158.

- توقع ارتفاع أسعار السندات عن المعدل المتداول حالياً في حال استشعار زيادة في الطلب.

- الخوف على احتياطيات مصرف لبنان من العملات الأجنبية، التي ستموّل عملية الشراء.

- تطلّب الإجراء دعماً سياسياً غير متوافر.

تعديل الاتفاق بين الدولة والدائنين

بين سقوط حقّ الدائنين بالمطالبة بالفوائد قبل آذار 2025، وبين رفع الدعاوى أمام محاكم نيويورك، هناك حلّ وسطي ثالث يتمثل في "تعديل المادة التي تنصّ في اتفاقية العقود الموقّعة على سقوط حقّ الدائنين بالمطالبة بالفوائد بعد خمس سنوات، وبالتالي، إمكانية تمديد الجدول الزمني لبند التقادم"، يقول الخبير في الاستثمارات في الأسواق المالية الناشئة صائب الزين. من دون أن يكون معروفاً على وجه الدقّة موقف المحاكم في نيويورك من هذه الخطوة من جهة، وإن كانت ستحوز إجماعاً داخلياً من الفرقاء السياسيين من جهة أخرى. ولا سيما إذا اتخذتها حكومة تصريف أعمال يعارضها العديد من المكوّنات باعتبارها غير دستورية.

لا حلّ في الأفق المنظور

الحلّ في إعادة شراء السندات كان واحداً من حلول عديدة طرحت في الفترة الماضية، للخروج من مأزق الدين، وأُجهضت سريعاً لأنّ "صانعي القرار، ببساطة، لا يقررون"، بحسب الزين. "فهم تركوا البلد على مدار السنوات الماضية في حالة من الفوضى والضياع من دون أيّ تدخّل عملي وجدّي للخروج من الانهيار". فأهملوا الإصلاحات الجوهرية، وفشلوا في تنفيذ الاتفاق على مستوى الموظفين مع صندوق النقد الدولي، وأقرّوا قوانين مشوّهة تنقصها الآليات التطبيقية، واستبدلوا بالإجراءات الفعلية في ما يتعلق بإصلاح القطاع العام وإعادة هيكلة المصارف وتعديل النظم الضريبية، مراسيم "ترقيعية"، غبّ الطلب، فاقمت المشكلات وسارت بالبلد من سيئ إلى أسوأ. وبالنّظر إلى الممارسات السابقة، من المستبعد، بحسب الزين "تحقيق أيّ خرق جدّي وإيجابي في ملف اليوروبوندز، أو غيره من الملفات الحساسة العالقة، وفي مقدمتها هيكلة المصارف، خلال الفترة الفاصلة بين اليوم وآذار 2025. بل ستترك الأمور "مائعة" من دون حسم، لتصلح نفسها بنفسها على حساب ما تبقّى من قدرة على الصمود في هذا البلد.

السعر الذي وصلت إليه اليوروبوندز "يبقى الدليل الأكبر على فشل صانعي القرار

متى يتقدم الدائنون بالدعاوى؟

السؤال الذي يطرح نفسه ويتكرّر على كل شفة ولسان، هو: لماذا لم يرفع الدائنون إلى الآن الدعاوى على لبنان، مع علمهم المسبق بعجز الدولة الفاضح عن حلّ هذا الملف بالطرق المنطقية التي تضمن حقوقهم؟ وهل يعمدون إلى رفع الدعاوى قريباً؟

لا شيء مستعجلاً بالنسبة إلى الدائنين"، برأي الزين، "ويمكن أن ينتظروا إلى نهاية آذار من العام المقبل حتى يرفعوا الدعاوى"، وتعود هذه الآلية المعتمدة عادةً في الأسواق المالية إلى مجموعة من الأسباب، منها على سبيل المثل "تطلّب الدعاوى سنوات طويلة، وتفضيل المستثمرين التفاوض للحصول على أكبر عائد ممكن على استثمارهم. هذا فضلاً عن أنّ المستثمرين يكونون غالباً خامدين passive investors في البداية ومشتتين، قبل أن يتحوّلوا تدريجياً إلى فاعلين ومنظمين. ولا سيما الفئة التي اشترت في العامين الأخيرين السندات بأسعار زهيدة تدرجت نزولاً من 20 سنتا للدولار إلى أقلّ من 6 سنتات. ومن المحتمل تقديم هذه الفئة من المستثمرين الدعاوى إذا لم يُحلّ الموضوع حبيّاً بأسعار أعلى من تلك المتداولة حالياً في الأسواق المالية.

بمعزل عن التطورات المالية والقانونية التي تنتظر لبنان في المقبل من الأيام، فإنّ السعر الذي وصلت إليه اليوروبوندز "يبقى الدليل الأكبر على فشل صانعي القرار في مواجهة الأزمات وإدارتها"، من وجهة نظر الزين. وذلك على غرار جميع الملفات الأخرى المتروكة بين أيديهم من كهرباء ومياه واتصالات وبنى تحتية وسواها من الخدمات.