بعد اندلاع الحرب في سوريا في العام 2011، فرض المُجتمع الدولي حصارًا مطبقًا على سوريا ومنعها من الوصول إلى الأسواق المالية العالمية، وهو ما انسحب على قدرة المصارف السورية على فتح اعتمادات بهدف الاستيراد. ولتخطّي هذه المُشكلة، اعتُمد لبنان منصّة لوجستية للاستيراد، حيث كان يتمّ هذا الأمر من خلال الشركات اللبنانية ويجري نقلها إلى السوق السورية.

بالطبع أدى هذا كله إلى مشكلات مالية في لبنان، لأنّ قسماً من الدولارات التي كانت تُستخدم في شراء المحروقات، كان يأتي من السوق اللبنانية، وهو ما أدّى إلى استنزاف الكتلة النقدية الموجودة في السوق خصوصًا في الفترة التي تلت بدء الاحتجاجات في لبنان بين العامين 2019 و 2021.

في أول أيلول من العام 2019، رفعت السلطات الأميركية الصوت عاليًا في وجه الدولة اللبنانية والمصارف التجارية، مُتهمة إياهما بتمويل النظام في سوريا من خلال استيراد المحروقات وبيعها في السوق السورية. وأخذت كحجّة أساسية حجم الاستيراد في الأشهر الستة الأولى من العام 2019 والذي قارب كلّ استيراد لبنان من المحروقات في العام 2018. ومن السيناريوهات المطروحة، سيناريو يتلاقى وهذه التطورات، مفاده أنّ المُجتمع الدولي ضيّق على حركة تدفّق العملات الصعبة إلى المصارف اللبنانية، فتسبب ذلك إلى حدّ كبير في اندلاع الأزمة المالية.

رسم بياني رقم 1: استيراد لبنان من المشتقات النفطية خلال عشر سنوات (مصدر: الجمارك اللبنانية).


وفي منتصف كانون الأول من العام 2019، أقرّ مجلس الشيوخ الأميركي عقوبات عِدّة عُرفت باسم قانون "قيصر" مُوجّهة ضدّ الحكومة السورية، وتستهدف الشركات والأفراد الذين يقدمون التمويل أو المساعدة إلى النظام في سوريا، كما تستهدف عددًا من الصناعات السورية والبنية التحتية والصيانة العسكرية وإنتاج الطاقة.

يُذكر أن جائحة كورونا التي عصفت بالعالم في العام 2020، أدّت إلى انخفاض استيراد لبنان من المحروقات (الرسم البياني الرقم 1). إلّا أنّ التجّار استمرّوا في تهريب المحروقات إلى سوريا على حساب السوق اللبنانية، وهو ما دفع الجيش اللبناني إلى حملة مداهمات لقمع الاحتكارات في صيف العام 2021.

وقد أدّى رفع أسعار المحروقات إلى خفض مرحلي للتهريب، إلّا أنّ العمليات لم تتوقّف. لا بل على العكس عادت الأمور في العام 2022 إلى ما كانت عليه قبل الأزمة، وبنسبة أقلّ في العام 2023 (الرسم البياني الرقم 1). وبالتالي، عاد ملف استيراد المحروقات ملفّاً ساخناً من ملفات المواجهة الأساسية بين لبنان والمُجتمع الدولي.

وأشارت معلومات حديثة مصدرها مسؤولون في قطاع النفط في لبنان إلى أنّ مصرف جي بي مورغان (JP Morgan) خفّض سقف الاعتمادات على استيراد المحروقات إلى لبنان بنسبة 30%. مبررًا ذلك بتداعيات التصنيف الائتماني الأخير للبنان الذي صدر عن وكالات التصنيف الائتماني. ومن هذه التداعيات خفض نسبة الربحية على رأس المال المُستثمر للمصرف المراسل بحكم إلزامية زيادة رأس المال القانوني.

إلّا أنّ التحليل المبني على تشابك المعلومات يُبيّن أنّ هناك سيناريو آخر قد يكون فعليًا السبب الرئيسي الكامن وراء قرار مصرف جي بي مورغان. فالمصرف يتعرّض لضغوط سياسية جمّة نتيجة الوضع الراهن على الساحة الأمنية والعسكرية، خصوصًا بسبب ما يحصل في الجنوب، ولكن أيضًا على صعيد الساحة السياسية بسبب ما يدور في أروقة سلطنة عُمان من محادثات. وعليه، فقد يكون قرار المصرف هذا مُرتبطاً ارتباطًا كبيرًا بهذه الأحداث. وما يزيد من حظوظ هذا التحليل أنّ التصنيف الائتماني أتى سيئًا وفي الوقت نفسه هناك تحسّن في أسعار سندات اليوروبوندز الصادرة عن الدولة اللبنانية في البورصات العالمية.

إذا صحّت هذه المعلومات، فثمّة أزمة كارثية تنتظر لبنان على صعيد المحروقات

التداعيات على لبنان

بالطبع، سينسحب هذا القرار على توافر المحروقات في لبنان بالكمّية الكافية. إذ من المتوقّع أن تنخفض الكمّية المتوافرة بالنسبة نفسها، أي 30%. إلّا أنّ هذه النسبة قد تكون أكبر من ذلك (بكثير!) رهنًا بما يحصل على الحدود اللبنانية السورية.

وفي التفاصيل، دفع التضييق الدولي على الاقتصاد السوري التجار السوريين إلى استيراد المحروقات من إيران. والمعروف أنّ إيران تُعاني كذلك نقصًا في منصّات التكرير نتيجة التضييق الدولي عليها، لذا فإنّ المحروقات المُستوردة هي ذات نوعية لا تتلاءم والمحركات. ولتخطّي هذه المُشكلة، يخلط التجار هذه المحروقات بمحروقات يتمّ شراؤها من لبنان ليُعاود بيعها في السوق السورية. وهو ما يعني أنّ لبنان سيواجه أزمة عند بدء نضوب خزّانات التجّار لأنّ ما يخرج من هذه الخزّانات أكثر مما يدخل إليها.

وبحسب المصادر النفطية المذكورة آنفًا، لن تكون هناك تداعيات على السعر، لأن التسعيرة تأتي من وزارة الطاقة والمياه التي تعتمد أسعار النفط العالمية (المُستقرّة حاليًا). لكن، إذا استفحلت الأزمة، فستكون هناك عودة إلى السوق السوداء على غرار ما حصل في النصف الثاني من العام 2020 والنصف الأول من العام 2021.

إذا صحّت هذه المعلومات، فثمّة أزمة كارثية تنتظر لبنان على صعيد المحروقات. ولا ترمي هذه العجالة إلّا إلى لفت نظر الحكومة على هذا الواقع الذي سيؤدّي إلى مزيد من المعاناة للشعب اللبناني.

لكن ماذا يُمكن الحكومة أن تفعل؟ قبل كل شيء، يتعيّن عليها مراقبة تهريب المحروقات عبر الحدود، فمراسلة جي بي مورغان لمعرفة هل كانت الأسباب تقنية، كما يقول المصرف، أم هناك أسباب خفيّة خلف هذا الأمر؟

ويبقى السؤال الجوهري، مع إطلاق وزير الطاقة والمياه مناقصة لشراء الفيول لمصلحة شركة كهرباء لبنان، هل يُوضع سقف أيضًا على استيراد الفيول، خصوصًا أنّ هناك اتهامات من قبل بعض الجهات الدولية بأنّ قسماً من الفيول المستورد يتمّ استبداله بالمحروقات؟ هذا الأمر رهن الأيام والأسابيع المقبلة، فلننتظر ونرَ.