وجيه فانوس، لم يكن مروره عاديًّا في هذه الدنيا، طَوال عمره الذي لم يتجاوز الخامسة والسبعين (1948 – 2022). فقد ملأ زمانه حضورًا وعلمًا ومعرفة، حتى غدا اسمه يعلو كلَّ لقب. هو العارف الأمثل، في الأدب واللُّغة والتَّاريخ والدِّين والحضارة والفنون والعادات والتَّقاليد، لا بل في الوفاء والصَّداقة، حيثما حلَّ أو اعتلى.

أخذ الكتاب بقوَّة، وما كان حرفٌ خَطَّهُ إلَّا هداية. هو الباني عَمارة روحِه من وحي تلاقي الحضارات وتفاعلها. المهجوسُ بالوجود السَّليم للإنسان. القارئ ما بين السُّطور وخلفَها، حتَّى الممحوَّ منها، قامةَ نقدٍ ومعرفة. الصَّديق الحميم لأضخم مِحبرة في تاريخ الشِّعر، محبرةِ صديق القيم الإنسانيَّة جوزف حرب. مؤرِّخ الجمالات الإبداعيَّة في هذا العصر. وهو، قبلُ قبلُ، الإنسان بكل تجلِّياته الأخلاقيَّة والقيميَّة والمعرفيَّة.

اختار، في مقالاته الصَّحافيَّة، فاكهةَ بستانِه ممَّا يحبُّ وحسب، فتذوَّقَه من كان يقرأُه، ومن مذاقِه عرفَه، لا من اسمِه المطبوع... أعلى النَّص أو أدناه.

طرد شياطينَ الحشوِ والإطناب، من هيكلِه، فبيتُه ليسَ مغارةً للُصوصِ الكلام.

كان ناقدَ نفسه أوَّلًا، ألهذه النَّفس كتب، أم لغيرها، كيف لا وهو الحامل دوكتوراه في النقد الأدبي المقارن من كلِّيَّة سانت أنتوني في جامعة أكسفورد البريطانيَّة، والأستاذ في الجامعة اللُّبنانيَّة وجامعات أخرى لبنانيَّة وعربيَّة، والرَّئيس السَّابق لاتِّحاد الكتَّاب اللُّبنانيِّين، ورئيس ندوة العمل الوطنيِّ، والعضو في المجلس الاقتصاديِّ والاجتماعيِّ، ورئيس المركز الثَّقافي الإسلاميِّ، وواضع عشرات الكتب والدِّراسات والمقالات والعضو المؤسس في أكاديمية الإنسان للتلاقي والحوار.

حفظتُ منه، حين حلَّ ضيفًا على برنامجي التِّلفزيونيِّ "نقطة فاصلة"، ثلاث ثوابت قيميَّة، تجعل مستقبل لبنان وأبنائه، إذا عملنا بها، عصيَّين على أيِّ خطر:

1- أنْ نَعي أهميَّةَ مراقبتِنا ذواتِنا ومتابعتِنا عَيْشَنا المُعاصِر، بقيامِ نَقْدٍ ثقافيِّ لِوجودِنا الإنسانيِّ الحَيِّ في هذا الزَّمنِ الَّذي لا يُنبئ إلَّا عن مرارةٍ مُقبلةٍ، ولا يكشفُ عن سوى ألمٍ مقيمٍ، مُفصِحًا عن تعاسةٍ مستمرَّةٍ وتخبُّطٍ سياسيٍّ مفجعٍ وطمعٍ إنسانيٍّ قاتل.

2- أن نعي أنَّ جوهرَ عبادةِ اللهِ، في خدمةِ خَلْقِهِ؛ وأنَّ جوهرَ العَمَلِ، في تحقيقِ المنفعةِ مِنْهُ؛ فليستِ العبادةُ في انتصارِ دينٍ على آخر، أو ممارسةِ طقسٍ دون سواه. وليستِ السِّياسةُ، كذلك، فِعْلَ غَلَبَةٍ لطرفٍ على آخر، وهيمنةَ جماعةٍ على كلِّ ما عداها، بقدرِ ما السِّياسةُ، ومعها الإدارةُ، إحقاقٌ لحقيقةِ المصلحةِ الإنسانيَّةِ العامَّةِ والمشتَرَكَةِ بين النَّاسِ، والعملُ الحيُّ على تكريمِ الوجودِ الإنسانيِّ وتعزيزِ سموِّهِ الحضاريِّ.

3- أن يعي اللُّبنانيونَ، والمثقفون منهم كما الأدباء، بِما لَديهِم مِن ثَرَواتٍ عقليَّةٍ وغِنًى ثقافِيٍّ، وبما يُمَثِّلهُ أبناؤهُم مِن طموحاتٍ راقِيةٍ، وما يَنْهَضُ في مجتمعِهِم مِن مؤسَّساتٍ أهليَّةٍ ومنظَّماتٍ لِلحقِّ المدنيِّ، وما يَضُمُّهُ بَلَدُهُم مِن تَجَمُّعاتٍ شَعبِيَةٍ واعيةٍ، كي يَنْتَظِموا في ما بَيْنَهُم، سَعْيًا إلى قيامِ نِظامِ المُواطَنَة.

ولعل خير ما توج به فكره الوطني هذا، ما كتبه، كوصية ربما، قبل وفاته، أن "لا بدّ من إعادة جذرية لقراءة مفهوم العيش المشترك، وليُعقد مؤتمر وطني، لا يبحث في المناصفة ولا في المثالثة، ولا في سواها من التقسيمات الطائفية والتوزيعات المذهبية التي شوّهت لبنان، ولا يبحث حتى في تعديل الدستور، بل هدفه إقرار توافق وطني جديد ومعاصر، على قراءة مفهوم العيش المشترك على أنه العيش الواحد والموحّد بين جميع اللبنانيين، بغض النظر عن طوائفهم ومذاهبهم".

قد يكون مهَّد في ما سبق لفهم هاجسه الحضاري. إذ إن ابن خلدون، حين أكب، في "المقدمة"، على دراسة الطبائع البشرية والعمران، توصل إلى نتيجة، هي أن كل الظواهر الاجتماعية ترتبط بعضها ببعض، ولكل ظاهرة سبب وهي في الوقت نفسه سبب للظاهرة التي تليها، أي ما مختصره تلاقي الحضارات وتفاعلها. حتى أتت نظرية فرنسيس فوكوياما عن نهاية التاريخ والإنسان الأخير، ومن ثم نظرية أستاذه صموئيل هانتيغتون التي تقول بصراع الحضارات، وبسيادة الصراع الثقافي، أي الحضاري، لا السياسي والاقتصادي في العالم.

وجيه فانوس كان ويبقى، حضورًا وغيابًا، الحاضر الأبرز في المشهد الإنسانيِّ الوطنيِّ المعرفيِّ الثَّقافيِّ

وجيه فانوس كان من دعاة تفاعل الحضارات وتلاقحها، واستمرارها بعضها ببعض، هاجسه الإنسان وخيره، مستندًا إلى التاريخ في فهم الحقائق، وإلى العقل والمنطق في تفسيرها.

كان قلمه قلم ناقد، خصوصًا في الجانب الثقافي، مدرجًا إياه في رحاب الأكاديميا التي لا تنظر إلى المادة الأدبية على أنها مجرد كيانات لغوية أو بلاغية أو تركيبية جامدة، بل على أنها نتاجٌ مركَّبٌ ينهض على تفاعلِ أمورٍ معرفية وحضاريَّة ثقافيَّةٍ كثيرة، من عناصر العيش الإنساني للفكر والتَّعبير والجمال، في ما بينها. فبدايات النقد تميزت بالرأي الانطباعي غير القائم على معايير أو أسس، ثم بدأت تتضح معالمه مع الجاحظ في كتابيه "البيان والتبيين" و"الحيوان"، ليرسي عصرنا الراهن قواعد أكاديمية في النقد، بمدارس متنوعة، راحت تتطور وصولًا إلى التفكيكية وما بعد الحداثة.

وقد أعطى وجيه فانوس النقد بعدًا جماليًّا إنسانيًّا، الأمر الذي لم نلاحظه لدى كثر من النقاد. وعليه، لم يكن الناقد الحقيقي في نظره مجرد مسترزق على حساب المؤلف، كما كان يقول سعيد عقل، وليست مهمة الناقد كمهمة الأثري ينبش القناطير المقنطرة من التراب ليعثر على تمثال أكله الصدأ، على ما كان يقول مارون عبود.

ويأسف وجيه فانوس أن النَّقد الأدبيِّ العربيِّ، ما برح على عهده منذ أن اشتدَّ عوده المعرفي، يساجلُ في ساحات الانطباع ويتودَّد في ميادين الصداقات ويتحفَّز في أودية السياسة ويقع في مهاوي الأعماق الأكاديميَّة. ويتوقف عند الصراع الدائر بين الشعر والنثر. فكلمة شاعر تغري، وكل من كتب يهمه أن يلقب بالشاعر. ويرحب بأي شكل للكتابة ما دامت قائمة على الإبداع. فالمشكلة الإبداعيَّة، في نظره، ليست على الإطلاق في اللغة العربيَّة، بقدر ما هي مشكلة في عمق وجود هذا العقل العربي الساعي إلى استخدامه لهذه اللغة، كأني بها عقدة نقص أو شعور بالدونية تجاه الأجنبي؟

كان وجيه فانوس رفيقًا للشاعر جوزف حرب الذي عمل معه في اتحاد الكتاب اللبنانيين، عضوًا ثم نائب رئيس وجمعتهما صداقة متينة امتدت قرابة 25 عامًا. وقد كلفه حرب السهر على إخراج ديوانه الضخم "المحبرة" (1725 صفحة)، الذي استغرق تأليفه سبع سنوات، إلى النور من المطبعة، تدقيقًا ومراجعة ومتابعة، فكان الأمر متعة لفانوس ما بعدها متعة، وغنى للروح، على ما أسرَّ لي.

واهتم وجيه فانوس بنقد أعمال الأخوين رحباني، هو الذي بدأ حياته مشغوفًا بعمر الزعني، الذي وضع عنه رسالة جامعية، وخصص مؤلفات لأدباء ومثقفين معاصرين، منهم: محمد علي شمس الدِّين ومحمَّد كريِم وأنور سلمان وباسمة بطولي، فضلًا عن كتابين آخرين عن عبد الكريم شمس الدِّين والأمير طارق آل ناصر الدِّين. وترك مؤلّفات كثيرة منها: "الريحاني والمعرّي"، و"محاولات في الشِّعري والجمالي"، و"أحداث من السِّيرة النَّبويَّة في مرايا مُعاصرة"، و"مخاطبات من الضفَّة الأخرى للنَّقد الأدبي"، و"إشارات من التَّثاقف العربيّ مع التَّغريب في القرن العشرين"، و"لمحات من النَّقد الأدبي الجديد" و"شفيق جدايل.. حكاية صوت". ليصح فيه القول إنه مؤرخ الجمالات الإبداعية في هذا العصر.

وجيه فانوس كان ويبقى، حضورًا وغيابًا، الحاضر الأبرز في المشهد الإنسانيِّ الوطنيِّ المعرفيِّ الثَّقافيِّ... والكثير الكثير بعد مما لا تتَّسع له صفحات.