"رضي" المودعون بـ "هَمّ" اقتطاع أكثر من ثلثي سحوباتهم المصرفية، و"هَمُّ" تخبّط السلطتين النقدية والمالية بالتكافل والتضامن مع السلطة السياسية "لم يرضَ بهم". فمنذ مطلع العام الجاري توقّف العمل بالتعميم 151، وامتنع العديد من المصارف عن إعطاء "ملّيم واحد" من خارج التعميم 158، ولاحقاً التعميم 166 المتقطّع التطبيق. وبين التعميمين الاستنسابيين، ثمة مودعون لا يكفيهم فتات "تشحيدهم" حقوقهم، وآخرون صنّفوا في فئة غير المستحقين للاستفادة من التعميمين المذكورين، لم يعد بإمكانهم الوصول إلى أموالهم بقرارات مصرفية استنسابية ومصرفية غبّ الطلب.

مطلع 2024 ، توقّف العمل بالتعميم 151. وهو التعميم الذي سَمح لأصحاب الودائع بالدولار المشكّلة بعد تشرين الأول 2019، أو غير المستحقّة لسحب 400 دولار نقداً وفقاً للتعميم 158، أن يسحبوا 1600 دولار على سعر صرف 15 ألف ليرة. وكان المبلغ الذي يعادل حوالى 270 دولاراً وفقاً لسعر صرف السوق (89500 ليرة) متنفّساً لمحدودي الدخل والمحتاجين. وذلك مع الإشارة إلى عدم مشروعيته، والظلم غير المسبوق الذي يلحقه بالمودعين، باقتطاع 83 في المئة من حقوقهم. ومع هذا كان هناك الكثير من المودعين مضطرين للسحب على أساسه، وإلاّ "متنا جوعاً"، على حدّ توصيف أحدهم.

التعميم 166 لم يملأ فراغ توقّف العمل بـ"151"

عدم تعديل الإدارة الجديدة لمصرف لبنان التعميم 151، ومتابعة العمل به كـ "إجراء استثنائي" كما كان يحصل منذ صدوره في 21 نيسان 2020، أتيا من باب "حسن النيّة"، لكون التعميم ظالماً وغير منطقي. وفي إطار بحثها عن إنصاف الشريحة التي انقطعت عن الاستفادة من التعميم 151، أصدرت الإدارة الجديدة التعميم 166 في 2 شباط 2024 إذ أصبح بإمكان أصحاب الودائع بالدولار المشكّلة بعد تشرين الأول 2019 الاستفادة من 1800 دولار سنوياً، أي 150 دولاراً نقداً شهرياً. وبعيداً عن كون المبلغ المحدّد زهيداً جداً إلى درجة لا تكفي لتسديد فاتورتي كهرباء الدولة والاشتراك، فقد أعطى المصارف المتهرّبة من دفع الدولار، "تمريرة خبيثة" لعدم تطبيقه أو أقلّه الاستنساب في التنفيذ. إذ لا يستفيد مثلاً من أحكام التعميم "كلّ من تظهر حساباته ما يدلّ على عملية تجارة شيكات"، وذلك من دون تحديد سقف أو رقم أو أيّ شيء آخر. فأتى هذا الشرط "شحمة على فطيرة" المصارف لتستنسب بالدفع لشريحة واسعة من المودعين، التي مارست بشكل أو بآخر تبادل الشيكات في الفترة الماضية. ومع عدم تحديد السلطتين النقدية والمالية رقماً وسقفاً للسحوبات بالليرة من حسابات الدولار، عجزت شريحة من المودعين عن سحب ليرة واحدة من المصارف ووقعت في ورطة مالية كبيرة.

عقبات تحديد سعر صرف جديد للسحوبات من حسابات الدولار

"البحث جار عن تحديد سعر صرف للسحوبات المصرفية من حسابات العملات الأجنبية بين مصرف لبنان ووزارة المالية"، تقول أوساط متابعة. و"من المتداول أنّ سعر الصرف سيراوح بين 25 و30 ألف ليرة، وبسقف بين 800 و1000 دولار، على أن لا يعطى المبلغ كاملاً بشكل نقدي إنّما يجري وضع نصفه على الأقل في حسابات البطاقات المخصصة لعمليات الشراء". هذه المعطيات الصادرة عن مصادر مالية، يشكّك خبراء ومطّلعون من الداخل في صحّتها، ويستعرضون العقبات التي تواجه سيناريوهات تحديد سعر صرف للسحوبات بالليرة كان أم بالدولار، وهي:

- الحاكم بالإنابة وسيم منصوري مصرّ منذ اللحظة الأولى على توليه الحاكمية، ألاّ يكرّر أخطاء سلفه رياض سلامة، ويُتهم بأنّه يشرّع تعدّد أسعار الصرف، ويقف وراء "هيركات" سيكون بالحدّ الأدنى 66 في المئة إذا اعتُمد سعر صرف 30 ألف ليرة مقابل الدولار".

- المصارف التجارية كانت واضحة مع منصوري بإعلانها عدم قدرتها على التسديد بالليرة اللبنانية على أيّ سعر صرف يفوق 1500 ليرة، ما لم يزوّدها بالليرات. خصوصاً أنّها تفتقر إلى أوراق النقد بالعملة الوطنية. وهذا ما يمكن أن يُستدلّ عليه من خلال ارتفاع فائدة "الانتربنك" بين المصارف التجارية، أي عمليات الإقراض الداخلية بالليرة لآجال قصيرة جداً إلى نحو 150 في المئة. في المقابل، فإنّ أيّ زيادة بضخّ الليرات ستؤدّي حكماً إلى ارتفاع الطلب على الدولار، وبالتالي، تقويض سياسة مصرف لبنان المتّبعة في سبيل المحافظة على استقرار سعر الصرف عند حدود 89500 ليرة. وقد بيّنت المراحل السابقة ارتفاع سعر صرف السوق السوداء بالتوازي مع تعديل سعر صرف السحوبات، وهذا ما جرى عقب الانتقال من سعر 3900 ليرة إلى 8000 ليرة، ومن السعر الأخير إلى 15000 ليرة.

- المصارف التجارية ترفض رفضاً قاطعاً تسديد أيّ مبلغ من خارج التعميمين 158 و166، حتى لو قضى القرار بالعودة إلى سقف 24 مليون ليرة بحسب التعميم 151، إنّما على سعر صرف السوق. أي ينال المودع 260 دولاراً نقداً على سعر صرف 89500 بدلاً من 160 دولاراً على أساس سعر صرف 15000 ألف ليرة. وعلى الرّغم من أنّ هذا القرار يريح سعر الصرف ويهدّئ غضب المودعين، فإنّه يُواجه برفض قاطع من المصارف. وبحسب أوساطها، فإنّ "توسيع التعميم 158، والسماح للمودعين الذين انتقلت ودائعهم بين المصارف بالحصول على 300 دولار، رفع كلفته السنوية عليها من 400 مليون دولار إلى أكثر من 650 مليوناً، وأوصل بعضها إلى مرحلة الإجهاد الذي قد يدفعها الى التوقف عن تطبيق التعميم بين لحظة وأخرى". وتستنسب المصارف، كما ذكرنا، لدى تطبيق التعميم 166 (إعطاء 150 دولاراً للمودعين الذين تشكّلت ودائعهم بعد تشرين الأول 2019)، لتتهرب قدر المستطاع من دفع الدولارات النقدية.

الدوران في الحلقة المفرغة

إزاء هذا الواقع، تدور كلّ الحلول في الحلقة المفرغة التي من المستحيل خرقها ما لم تتمّ إعادة هيكلة القطاع المصرفي على قواعد واضحة وشفافة ومعالجة مشكلة الديون والاتفاق على كيفية توزيع الخسائر. وقد تحوّلت هذه الممارسات العقيمة إلى ما يشبه قصة "إبريق الزيت" التي يدفع ثمنها المودعون فقط لا غير. فالمصارف التي تحوّلت إلى "زومبي بنك" محمّية من السلطة النقدية التي تصرّ على عدم إفلاسها مهما يتقهقر وضعها. وهي تتمادى تماديًا جعلها تعرض شراء ودائع الزبائن بـ 10 في المئة من قيمتها الحقيقية. وبعضها يعرض، بحسب شهود عيان، شراء وديعة المليون دولار بـ 100 ألف، وأحياناً أقلّ. وما يدلّ على هذه الممارسات الفاضحة في حقّ الزبائن والمودعين الذين يتحمّلون منذ 5 سنوات وهْم إيجاد الحلول، هو تذويب المصارف 34 ملياراً و85 مليون دولار من الودائع خلال السنوات الخمس الماضية. إذ بيّن التقرير الاقتصادي لجمعية المصارف تراجع ودائع القطاع الخاص لدى المصارف بالعملات الأجنبية من 123138 مليون دولار في 30 أيلول 2019 إلى 90053 مليوناً في 30 نيسان 2024.

هذا الواقع لا يمرّ من دون ثمن باهظ، يدفعه المودعون. ولا سيما الشريحة التي قرّرت المصارف "من عندياتها"، أنّها غير مؤهلّة للسحب من أموالها بحسب التعميم 166. فاستحالت أموالها وقفاً لا تستطيع سحبها أو تجييرها أو التصرف بها، وليس أمامها من حلّ إلّا بيعها للمصارف بـ "هيركات" هائل، أو كما يقال باللهجة المحكية بـ "تراب المصاري"، فهل هذا هو المطلوب؟