"أدعوك في غربتي تطيل الدعاء"... ترتيلة كنسية من أجمل ما لحَّن الأب البروفسور إيلي كسرواني. وما تراتيله جميعًا إلَّا سقف كلِّ كنيسة.

حين أستوي في مقعدي المنزلي... تتراءى صورته أمامي جالسًا قبالتي، يتصبَّب عرقًا. سألته يومذاك عن صحَّته، أجاب أنَّه عائد لتوه من عيادة طبيب، طمأنه أنه بخير. ورحنا نتحدث. تحدثنا طويلًا. كان تعبًا. أخبرني حميميات رهبانية وعائلية، أول مرَّة طرحت عليه أسئلة عنها، أنا الذي أعرفه منذ ثلاثين عامًا. هل كان يودعني أسرارًا قبل الرحيل؟

فجر اليوم التالي، 20 أيلول 2023، هوى في حديقة منزله، في عين القبو، جراء أزمة قلبية حادة... ليبقى في حديقة القلب، جالسًا قبالتي أتأمل مطرحه.

هو مبتدأُ البَخورِ المرفوعُ بالجُبَّة الظَّاهرةِ على قامته العالية.

هو فاعلُ الأرضِ المرفوعُ بمعولٍ وثلمٍ وخيرٍ عميمٍ ظاهرةٍ جميعًا على جبينه وعلى ما أتت به يداه.

هو الكلمة الدَّافقة نهرًا صافيَ الحروف والمعاني، نَقِيَّها، عَذْبَها، تتمرَّى بصفحة جريانه الحقيقةُ علمًا، والمعرفة بحثًا، والجُرأة قولًا وفعلًا. 

هو النَّغم المشغول بالتماع الرُّؤيا ذهبًا، بانسكابِ دمعة فرح، بانسياب ضحكة طفل فَرِحٍ بلعبة، على مقامه هو قبل أيِّ مقام... المقام الكسروانيِّ.

إيلي كسرواني، معه يتحوَّل بحر الموسيقى جملةَ ماء تجري في سواقي الرُّوح، وتترقرق في نبع الأحاسيس، وتعبُر سهول الجسد إلى آخر سنابل الخصب.

وبه ينهض التُّراب من سريره ليعتمر الشَّمس ويرتدي النَّدى ويرافق الشَّجر والنَّاس في رحلة العمر والنياسم.

وحينذاك يحمل مايسترو الجمال عصاه، يعطي إشارة البدء، ولا تعود السَّمفونيَّة تنتهي، إلَّا لتبدأ من جديد.

لا أغالي في ما سبق، وأنا أقرأُه مفكِّرًا أو مؤلِّفًا موسيقيًّا أو ملفان فلسفة ولاهوت وأدب. فمنه تعلَّمت أنَّ الموسيقى أكثر من لغةٍ عالميَّة، قلها لغةً إنسانيَّة. وبالغ أكثر، قلها الإنسان.

الموسيقى، في كتابه، مرآةُ المشاعر، وأجملُ ما فيها أنَّها كتلك المشاعر، لا تقبض عليها بعينٍ أو بأذنٍ أو بيد، تقبض عليها بتجلِّيات الرُّوح.

ومهما تتنوعْ مدارسها وأساليبها ومقاماتها وإيقاعاتها، تبقَ هي إيَّاها، دعوةً إلى الفرح المطلق، رحلةً في جِنان الجمال، موعدًا يؤرجحك بين أرضٍ وسماء، على مركَبة النَّشوة، وما الفضاءُ إلَّا ثُمالةُ كأسِكَ.

كأنَّا بالله وهو يخلق الكونَ في ستَّة أيام، كان إمَّا يرنِّم وإمَّا يستمع إلى سمفونيَّاته الَّتي أبدعها من ماءٍ وتراب، من خرير أنهر وحفيف شجر، من عصف رياح وتغريد عندليب، من وقع خطى آدم وخفقة قلب حوَّاء... حتَّى إذا ما استراح في اليوم السَّابع، فإنَّما على استعادة تلك السَّمفونيَّات.

بسيطًا كان في ما خلق، ولكن جميل، وما من نغمٍ جميل إلَّا ذاك المفرطُ في بساطته، لأنَّه نابعٌ من حقيقة الإنسان وجوهره، لا من قشورٍ صنعها ليخدع نفسه أوَّلًا، وزخارفَ ظنَّ أنَّها تعوِّضه بشاعةً صُنْعَ يديه.

هذه البساطة هي الأصالةُ بعينها، سواءٌ عزفتها آلة موسيقيَّة واحدة أو أوركسترا، سواءٌ عبَّر عنها النَّغم، أو توافقُ الأنغام، سواءٌ أدَّاها صوتٌ أو جوقُ أصوات.

ومهما بدا المصبُّ بعيدًا عن النَّبع، حين تفرِض الموسيقى حضورها جمالًا وبساطةً، يتلقَّاها الإنسان كأنَّه هو النَّبع، وكأنَّها هي المصبُّ.

تُلغى المسافة، ليملأَها النَّغم، فيمتلئ به الروح.

هكذا أقرأ الأب إيلي كسرواني، هو القائل "إنَّ قدر الموسيقى أن تتمدَّد في الحضارات ولا تموت"، فألخِّصه بفيلسوف البساطة العميقة.

ذات أمسية، جمعتُ ربيعه في قطرة عطر. كنت في حضرة "كونشرتو الرَّبيع" أمسية موسيقيَّة، أحيتها جوقته "ميزوبوتاميا"، برئاسته، عددتُها مفصليَّة في تاريخ الأمسيات والموسيقى في لبنان، وجَرُؤت على القول إنَّ في الإمكان التَّاريخ بـ "ما قبلها وما بعدها"، لأنَّها بانوراما لا تحدُّها أطرٌ، وليس لزرقة السَّماء أن تدَّعي أنَّها مظلَّتُها، ولأنَّها تخطَّت الوجدان الشَّخصيَّ إلى الوجدان الجماعيِّ، حاضرةٌ فيه ذاكرة الأمس ووعي الحاضر، وساطعةٌ فيه شمس الغد، ولأنَّها بمقدار ما كانت كلاسيكيَّة شرقيَّة، جعلنا خلالها نقبض على الحداثة بروحنا، حتَّى إنَّ أصابعنا شاركتنا لمسها، ومثُلَتْ أمام أعيننا، ولو مجرَّدة، حقيقة مطلقة، واستطابتها الألسن، وسما بها السَّمع، وعبق أريجها في أرجاء النَّفس والمكان، ونهضت من بين حواسِّنا، تلك النَّائمة المسمَّاة الحاسَّة السَّادسة، لتقول: لا حداثة إلَّا من جوهر الكلاسيكيَّة، وما الشَّرق إلَّا مهد القداسة، ولتضيف هانئة: كانت أمسية عزَّزت فينا الأمل في أنَّ الموسيقى في لبنان ما زالت بألف خير، على الرَّغم ممَّا يُبَثُّ ويُنتج ويروَّج له، وهو لا يعدو كونه طفرة جلديَّة، أو بثورًا ناتجة من مشكلة في المعدة، أو حَبَّ شباب. 

أمسيتذاك، وبونا إيلي يقود الجوقة، جعلنا نقبض على النَّشوة وهو يستمع إلى ما ابتكرت روحه وصنعت يده بمتعة، مرنِّمًا همسًا وإيماءً كلَّ نوتَّة وكلَّ كلمة، لكأنَّا بالأرض حيث وقف تقول له: عذرًا أيُّها الطَّائر الغرِّيد، فضائي صار أضيق من جناحيك.

فموسيقى الكسرواني القائمة على المقامات الشَّرقيَّة، ينوِّعها ويصهرها ويُشبعها، بنت وعي كامل، لأنَّها تجسيد لاختبارات ودراسات، ومرآة لتراث غنيٍّ قادر على أن يكون حاضرًا بأصالته وروحه، غدًا قبل اليوم، يسعد النَّفس والرُّوح، وينظِّف الأذن من ضوضاء موسيقيٍّ وضجيج غنائيٍّ وهجانة سطحيَّة. جملته الموسيقيَّة نسيج وحدها، قائمة في ذاتها، ولكن متخطِّية أيَّ زمان وأيَّ مكان، على الرَّغم من أنَّها وليدة التَّراكم الموسيقيِّ من أوَّل نغمة جرت على لسان، وعلى الرَّغم من أنَّها آتية من كوكبِ غدٍ لم يصل بعد شعاعه الأوَّل إلى الأرض.

دقيق بونا إيلي في اختيار المقام، لا بل في تفضيل نوتَّة على أخرى، علمًا أن التَّطريب، وهو كثير في أعماله، مدروس ومضبوط حتَّى في أدقِّ تفاصيله، من دون أن يفقد جماليَّته، أو يُشعر سامعه أنَّ عنصر الارتجال مفقود.

بونا إيلي... حسم بعلم وبحث ومعرفة أنَّ التُّراث السُّريانيَّ المارونيَّ، سواء كان دينيًّا أو شعبيًّا، واحد، "لأنَّ الشُّعراء، بمن فيهم الزَّجَّالون، كانوا في غالبيَّتهم، رجال دين، يرنِّمون التَّراتيل البسيطة الأحاديَّة النَّغم، المتوارثَة عبر الأجيال عن السُّريانيَّة المارونيَّة، على الوزنيِن الأفراميِّ واليعقوبيِّ، بخاصةٍ. وما زالت على هذه الصُّورة، أبعادًا صغيرة وأجناسًا رئيسة، تناجي الله بدَفق الأحاسيس فيها، وتخاطبُ الإنسان ببساطتِها. وإذْ تردِّدُها أنت، هي نشوةُ السَّماء تنتابُكَ، هي الدَّمعة تعبِّرُ عن فرحِك".

وهذه التَّراتيل نفسُها، بحسب بونا إيلي، تحوَّلت زجليَّاتٍ تعالج مواضيع أرضيَّة دينيَّة اجتماعيَّة تاريخيَّة وطنيَّة إنسانيَّة وكوَّنت الفولكلور ألحانًا وبُنيانًا وأوزانًا وإيقاعات. فما إن يخرُج المؤمن من الكنيسة، حتَّى تصبحَ ساحها، ساح بيت الله، المكان الانتقاليَّ، حيث تخلع الأنشودة عنها ثوب التَّرنيمة، وترتدي لباس القرَّادي أو الأغنية الفولكلورية، تروحُ تُغنَّى في الساح والبيت، وتطردُ وحشةَ السَّهرات.

جرِئين كان أجدادُنا. تجاسروا فغنُّوا التَّراتيل والتَّرانيم، طربًا وأهازيجَ. لم يُثنِهم عن ذا عقابٌ، بل أرادوهُ بوعيٍ، وإلَّا لما دخلت هذه الأوزانُ والإيقاعاتُ والألحانُ في اللَّاوعيِ الجماعيِّ، وأصبحت تراثًا. وحتَّى زجليَّاتُ ابن القلاعي، بتناولها طبيعتَي المسيح أوصلتاها إلى كلِّ مؤمنٍ، إلى قلبهِ، قبل عقلِه... على ما يستنتج فخورًا.

وحسبه أنَّه مبتدع علم سمَّاه موزيميديولوجيا... يجعل من الموسيقى علمًا متكاملًا بين التَّأليف والعزف والإعلام والمصطلحات والكتابة، هو الَّذي لا يهنأ إلَّا ببلوغ الكمال، كيف لا وقد درس الألحان السُّريانيَّة جميعًا، وعددها يقارب الألف، ورتَّبها وولَّفها ونوَّطها، تراثًا يشبه الخمر المعتَّق.

وحسبه أن أول لحن وضعه للكنيسة "وحدت يا رب"، وكان تلميذ ابتداء في الرهبانية اللبنانية المارونية، ضُم إلى أسطوانة جمعت أجمل 25 لحنًا كنسيًّا.


وحسبي أن عملين جمعاني به، فلحَّن اثنتين من قصائدي: قصيدة للمغرب، عنوانها "إن أشرقت لا تغرب" أدتها جوقته "ميزوبوتاميا" في الرباط، عام 2014، وقصيدة "بطرسيُّ الحرف" لمناسبة الذكرى المئوية الثانية لوفاة المعلم بطرس البستاني، وأدتها المطربة باسكال صقر، عام 2019.


يبقى أنَّني سألته ذات مقابلة تلفزيونيَّة، كيف تجرؤ، بونا إيلي، على تلحين لفظة الله في أحد النصوص، على نوتَّة خفيضة، ابتسم وأجاب، دالًّا بيده إلى قلبه: ومن قال إن الله في السَّماء وليس في قلبي؟

ومن قال، بونا إيلي، إنَّك، كلمة ونغمًا وحضورًا، لست أيضًا جالسًا قبالتي أحيانًا، وساكنًا قلبي دومًا.